علي لفته سعيد
يسعى الكاتب والصحفي المصري أسـامة الألـفي من خلال كتابه (أمل دنقل عابرًا للأجيال) الذي أعده وأشرف عليه وصدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب أن يقدم عملًا جماعيًا لمجموعةٍ من كبار النقاد بينهم شقيق أمل وهم يتناولون تجربة الشاعر العربي الكبير.. حيث تناول كلّ واحدٍ منهم جانبًا في شعره أو شخصيته أو حياته بما يمثل توليفةً تسهم في معرفة شعر دنقل.
الكتاب لا يحتاج الى فهم التأويل والركض وراء المعنى والقصد، فأمل دنقل شاعرٌ لا يشقّ له غبار، ولا يبحث عنه الضوء فقد دخله واعتلى منصة الثبات والقبول والشهرة، ولهذا فهو وإن كان كما يقول الألفي، شاعرٌ صنعته المتناقضات إلّا إنه حقاً ملأ الدنيا وشغل الناس بنصوصه الشعرية التي انطلقت من مصر لتؤكّد على أحقية أن تكون العلامة الفارقة للشخصية المصرية والمعادل الموضوعي الذي يريده المتلقّي العربي.. بمعنى إنه خرج من المحلية المصرية الى المساحة العربية الواسعة في زمنٍ لم تكن فيه كلّ التقنيات الحديثة التي تولّد الشهرة أو تصنع مشهورًا بلا جذور.
فدنقل ولد عام 1940 بمحافظة قنا المصرية وكما تقول المعلومات المتوفرة إن أسمه محمد أمل فهيم أبو القسام محارب دنقل. كان والده عالمًا من علماء الأزهر الشريف مما أثر في شخصيته وقصائده بنحو واضح. ولأنه كذلك فكلّ نصوصه أو أغلبها استوحاها من رموز التراث العربي وكونه عاصر عصر أحلام العروبة والثورة المصرية فقد أسهمت هذه المعاصرة في تشكيل نفسيته. وقد صدم ككل المصريين بانكسار مصر في عام 1967 وعبرت قصائده عن ذلك.
مالئ الدنيا
كتاب الكاتب الألفي ربما يعد إنصافًا لدنقل وجهدًا محمودًا للمؤلف الذي لديه أكثر من 20 كتابًا في شتى المعارف والمناهج في الأدب واللغة والإسلاميات وصحفي في جريدة الأهرام المصرية ومحررًا ثقافيًا في جريدة الزمان ايضا. وهو يصف دنقل إنه ملأ الدنيا كما ملأها «شاعر العربية الأكبر أبو الطيب المتنبي، ففي شخصيتيهما نقاط تلاق كثيرة، كلاهما لم يرض الناس عن شخصه، وإن أقروا لهما بالشاعرية، وكلاهما لاقى نهاية مأساوية، فالمتنبي قُتل بعد صراع وكرّ وفرّ مع أعدائه، وأمل دنقل مات بعد صراعٍ عنيفٍ مع مرض عضال.. نهش الموت جسديهما وروحيهما، ولم ينهش ذكراهما التي بقيت حيّة بأشعارهما.»
أن هذه الخصيصة التي أسقطها الألفي واستنبطها من الحقيقة الظاهرة وما شكّله من صوتٍ عربيٍّ مسموعٍ جماهيريًا وقاهرًا للطغيان ومؤشرًا على الأزمة العربية، وإنه جاء في زمن الحلم العربي بالتحرّر والوحدة وهو زمن جعل النصوص الأدبية كلّها تسعى للمراهنة على المستقبل، لكن الخيبات تناسلت ولم يتم تحقيق هذا الأمر.. فالمتنبي خالف شعراء عصره ودنقل خالف حتى المدارس الشعرية الحداثية، واستلهم بطريقةٍ فنيةٍ في شعره التراث للتعبير عن الحاضر.. ويقول الألفي في المقدمة أن قصائد دنقل « جاءت لتفتح أمام قارئه نوافذ مشرعة على عوالم من الدهشة، بتعبيرها عما يجول بخواطر شعبه ووجدان أمته، في تجربة فريدة فيها من الثراء ما يكشف تفرّد مبدعٍ عشق الحرية بفكر شاعر، وأحبّ الحياة وعاشها بقلب طفلٍ غاضبٍ مشاكس» وهو الأمر الذي يثبت اختلاف الآخرين عنه ومنه، كونه شكّل مؤسسةً احترافيةً في الشعر وانطلق في نصوصه الى محايثة الذات العربية التي يريدها أن تتخلّص من انكساراتها ونكساتها وإلّا تنسى الماضي ولا تتعكّز عليه ولا تمضي باليأس من الحاضر ولا تسكت عنه.. ولذا فهذه المواقف جعلت البعض يتهمه بالنكوص، وبعض آخر أوصله الى مرتبة القدّيس الذي يضحي من أجل الناس.
أجيال وتأثيرات
في كتاب الألفي محاولةّ لإعادة قراءة حياة أمل وشعره، وتوثيق المعرفة للأجيال، وهو ما يؤكّده الألفي إن الكتاب « رغبة في تعريف الأجيال التي لم تعاصره بتجربته المتفردة» والكتاب سعيٌ حثيثٌ محمودٌ لتقديم معالجةٍ شاملةٍ متوازنةٍ لشخص الشاعر وشعره، عبر دراسات ومقالات لمجموعة نقّاد من جيلي الشيوخ والشباب ينتمون لمدارس نقديةٍ مختلفةٍ، على اعتبار إن الاختلاف هو الذي يولّد معنى الصدق في الاختيار مثلما يولّد مصداق التأليف المنهجي، فتنوّعت المباحث والمناهج النقدية ليعطي انطباعًا إن أمل دنقل شكّل ظاهرةً جعلت الآخرين يصغون حتى لصوت حروفه بعد موته.. وهو الأمر الذي يفسّره الألفي إن الذين كتبوا عن شعر دنقل واختارهم ضمن كتابه تناولوا «جوانب مختلفة من حياة شاعرنا وإبداعه، حيث نتعرف على صوت التراث وتأثيره في شعره، وتبادل الغياب والاستحضار فيه وأشكال التناص، والبعد السردي الذي يميز قصائده، والجانب الفلسفي الذي يتبدىء فيها، وتأثير الإيديولوجيا في إبداعه، ولم ننس تناول جانب الناقد الذاتي لديه، وتقديم رؤية تخيلية لتأثير شعره على شباب ثورة 25 يناير، حيث كانت قصائده ملهمة للثائرين الرافضين للنظام القمعي، فضلاً عن ترجمة تسبر أغوار حياة الشاعر تساعد على إيضاح كثير من الجوانب الخفية التي على ضوئها نفهم شعره وخفاياه»
نقاد وقصيدتان بخط دنقل
الكتاب والنقاد الذين ضمهم الكتاب هم كلّ من الدكاترة محمد عبد المطلب ويوسف نوفل وحلمي محمد القاعود و محمد شبل الكومي وحسن البنداري وايضا حسن لكشر وأحمد الصغير وجمال محمد عطا فضلا عن الكتاب أنس دنقل ومحمد جبريل وشاذلي دنقل..
والفقرة الأهم في الكتاب فضلّا عن الدراسات والمقالات والبحوث التي حملها، ضمّه لقصيدتين من بدايات أمل بخطّ يده لم يسبق نشرهما، وقائمة ببليوغرافية لأبرز الكتب والدراسات والرسائل الجامعية، التي وضعت عنه وعن أعماله.
ليس من السهل أن يكون الكتاب جهداً نقديًا وبحثيًا وجامعًا أرشيفيًا ربما لا يستوعب كلّ ما كتب عن الشاعر الراحل الذي حمل الكثير من المتناقضات وكما وصفته زوجته الأديبة عبلة الرويني في كتابها «الجنوبي» كما جاء في مقدمة الكتاب إنه « مزيج من المتناقضات، فهو صعيدي محافظ حافل بالعصيان، فوضوي يحكمه المنطق، بسيط في تركيبة شديدة التعقيد، استعراضي يتيه بنفسه في كبرياء لافت، في الوقت الذي يحوي بداخله بساطة يخجل معها إذا أطريته وأطريت شعره، لدرجة أنه قد يحتدّ على من يمدحه، خوفًا من اكتشاف منطقة الخجل لديه، متطرف بجرأة ووضوح، كتوم لا تدرك ما بداخله أبدًا، لهذا لم يكن له قط عنوان محدد، إذ قاسم أصدقاءه غرفاتهم وأسرتهم وكتبهم وحتى رغيف خبزهم»
مرض وأمل
ربما يكون وصف زوجته الأديبة توضيحًا لحقيقة ما كان عليها دنقل لكنه بالتأكيد ليس كل التناقضات تشكّل ضعفًا في شخصيته أو إنها تسبّب انهيارًا في المنظومة الفكرية، بل هي طبيعة الشخصية العربية التي لا تجد الإطمئنان من كلّ شيء ولأيّ شيء ونحو أيّ شيء.. لذا فإن الاختلاف هو سرّ الابداع وليس كما يصفه المعارضون من إنه متخاصمٌ مع ذاته متناقضٌ مع قوله.. فكلّ شعره لا يوحي إلّا بثبات المنطق الذي يحتاج الى تصويرٍ لاستنطاق الحقيقة التي يعيشها الإنسان العربي الذي يريد استنزافها ليتخلّص من الاستنزاف الداخلي الذي لو ظلّ حبيسه لانفجر.. لهذا كان ألمه سرّ النجاح أو العظمة.. كما قال شاعر الرومانسية الفرنسي الكبير الفريد دي موسيه وذكره الألفي في كتابه « فلا شيء يجعل المرء عظيمًا سوى ألم عظيم» ولهذا فان موته في المستشفى لم يكن يمرّ من دون أرخنته شعريًا فكان آخر دواوينه حمل عنوان «أوراق الغرفة 8»، وهو رقم الغرفة التي مات فيها.. وهو بهذا كان يشكّل العديد من الصراعات سواء منها الحياتية التي نشأت معه في الصبا والمكان، ثم صراع الواقع المرير الذي أدّى الى تراجع الحلم العربي، وكذلك صراع السلطة والقوّة ومحاولة قتل الصوت المثقّف، والصراع الأخير مع المرض.. وكلّ هذه الصراعات وصفها الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي بأنه «صراع بين متكافئين: الموت والشعر».
أمل دنقل كما يريد الألفي إثباته كان يسخر من كلّ شيء ليس ليتخلّص من حشد الألم والمرض، بل من أجل زرع الأمل.. ويقول في كتابه « ولهذا كان ساخرًا وفيما كان يصارع سكرات الموت لم تفارقه روح الصعلكة الساخرة التي غلفت طالما قصائده واعتادها قارئه، فلم يكن الموت يعنيه كثيرًا بقدر ما تعنيه مفارقات الحياة وتناقضاتها، ينظر سلال الورد التي أرسلها له الأصدقاء والأحباء والمعجبون تعبيرًا عن محبتهم له، فلا يرى فيها حبًّا وإنما حياة سُلبت وسجل قاتلها اسمه على بطاقة أرفقها بها.. ويورد ما كتبه دنقل عن هذه السلال من قصيدة له
وسلالٌ منَ الوردِ:
(ألمحُها بينَ إغفاءةٍ وإفاقه
وعلى كلِّ باقةٍ
اسمُ حامِلِها في بِطاقة
كلُّ باقهْ..
بينَ إغماءة وإفاقهْ
تتنفسُ مِثلِىَ – بالكادِ – ثانيةً.. ثانيهْ
وعلى صدرِها حمَلتْ – راضيهْ…
اسمَ قاتِلها في بطاقةْ)
سخرية وصعلكة
والألفي يريد في مقالته الذي ضمّها الكتاب وحملت عنوان ( شقة العجوزة وأيام الصعلكة ) أن يثبت شيئًا آخر، إن صعلكة دنقل لم تكن مصطنعةً، بل ربما هي جاءت إضافةً الى ما قلنا فإنه يضيف سببًا اجتماعيًا وهو أن «شاعرنا المطبوع بشيء من الخشونة والعناد لم يكن بإمكانه التألقم مع المجتمع القاهري، فما لبث وتمرد عليه لما رأى فيه من مشاعر جافة وافتقار للدفء والمودة، وترك الجامعة قبل أن يكمل عامه الأول، لأنه لم يجد نفسه فيها، فالمدينة بقسوتها على الغرباء تدفع بالشعراء إلى التصعلك، حدث هذا لشعراء كثر لعل أبرزهم في العصر الحديث شاعر البؤس عبد الحميد الديب» وهو الأمر الذي انعكس على صعلكة الشخصية كونه أراد التمرّد كما يفعل الشعراء عبر التاريخ، وكان هو وبحسب هذه المعطيات لا يريد الإحساس والشعور بالذلّ والحاجة والخوف والانصياع لغير ما يؤمن به.. لهذا كانت رحلة دنقل مع الصعلكة كما يقول الألفي» بدأت بعد تركه الجامعة في سنته الأولى، ودامت سنوات لم يعرف خلالها مستقرًا إلا بعد زواجه من الكاتبة الصحفية عبلة الرويني، إذ ظل متنقلًا من عمل لآخر لا يثبت على وظيفة، ولا يبالي بشيء سوى شعره وكرامته، فعمل مع رفيق دربه الأبنودي في وظيفة متواضعة بمحكمة، لكنه لم يلبث أن تركها للعمل في السويس والإسكندرية، وكانت شهرته كشاعر قد بدأت تنتشر ولفتت انتباه الأديب الكبير يوسف السباعي، فعينه بوظيفة في منظمة التضامن الأفرو ــ أسيوية، إلّا أن شاعرنا لم يجد نفسه فيها وما سبقها من وظائف ففي داخله كان هناك إحساس جارف بأنه خلق للشعر ولم يخلق للتوظف والجلوس وراء المكاتب»
أن الشاعر العربي الكبير أمل دنقل ربما يكون قدوةً في كيفية تحويل النكبة والإحباط والغضب الى شعرٍ وطاقةٍ وشهرةٍ حتى لو كان النصّ متمرّدًا ورافضًا وساخرًا ومهدّمًا لكلّ أطر التقليدية التي يعتقدها تحجّر من قول الشعر، ليتحوّل كلّ الهم الى محنة وطنٍ والى كيفية المساوقة معها لكي يكون الوطن آمنا.
ربما ما قيل عن دنقل لا يمكن ان يحتويه كتاب لكن ما قام به الكاتب إسامة الألفي يعد حقيقةً جهدًا مثابرًا لأرخنة وأرشفة ما قيل عن هذا الشاعر الذي لم يثبت تعريفًا عليه، مثلما هو لم يثبت على تعريف ذاته المتمرّدة.