عمرو حمزاوي
إبّان الانتخابات البرلمانية المصرية للعام 2011 تشظّت الأحزاب العلمانية. فائتلافاتها المتبانية أربكت الناخبين ورتبت تفتيت كتلها الانتخابية، وأصولها التنظيمية والمالية المحدودة سلمت أقساماً كبيرة من الناخبين إلى تيارات الإسلام السياسي خاصة الإخوان والسلفيين. هيمن حزب الحرية والعدالة الذي أسسته جماعة الإخوان والأحزاب السلفية وفي مقدمتها حزب النور الذي أسسته الدعوة السلفية على مجلس الشعب الجديد بعد حصدها معا ثلاثة أرباع المقاعد. التأم المجلس في كانون الثاني/يناير 2012، وداخله استمر تشظّي الأحزاب العلمانية. حزب الوفد، وهو حصل على 32 مقعداً، مال إلى التعاون مع الإخوان والسلفيين. أما نواب الكتلة المصرية المكونة من أحزاب المصريين الأحرار والمصري الديمقراطي الاجتماعي والتجمع، وكان لها 34 مقعداً، فاختاروا انتهاج استراتيجية مُعارضة. وحاول نفر قليل من النواب العلمانيين المستقلين، وكنت من بينهم، الاضطلاع بأدوار توافقية بغية تأمين فعالية السلطة التشريعية وتأمين الانتقال المصري إلى الديمقراطية التي كانت خطواتها التالية هي كتابة الدستور الجديد والانتخابات الرئاسية. أما الإسلاميون فقد بدا في العام 2012 أنهم يتمتعون بحظوة لدى المؤسسة العسكرية، وأنهم بدأوا يشقون طريقهم ليصبحوا مع الجيش المحور السياسي الجديد في مصر.
كان الوفديون، الذين تأقلموا دوماً مع حقائق التعددية المحدودة في عهد مبارك، على استعداد للمشاركة في سياسات ما بعد 2011 وفق واقع هيمنة الإسلام السياسي. أما الأحزاب العلمانية في الكتلة المصرية فقد تبنّت استراتيجية مُغايرة. فهي بدلاً من أن تعتبر المكاسب المتواضعة التي حققتها في الانتخابات بداية طيبة لأحزاب طرية العود وحديثة التأسيس، أطلّت، ومعها ممولوها من رجال الأعمال وناخبوها، على هيمنة الإسلاميين على أنها هزيمة مُحققة. لا بل أكثر، اعتبر كل هؤلاء أن هذه الحصيلة هي ثاني هزيمة لهم بعد فشلهم في إسقاط الاستفتاء الدستوري الذي فرضه المجلس الأعلى للقوات المسلحة في آذار/مارس 2011.
كانت المجموعات العلمانية، ماعدا حزب الوفد، قد حثّت الناخبين في ربيع 2011 على التصويت بـ”لا” في الاستفتاء الذي طُرحت فيه تعديلات على دستور 1971 تستهدف إحداث انفتاح في الحياة السياسية وطُلب من الناخبين التصديق عليها. ساورت هنا المجموعات العلمانيين والناشطين الآمال بأن التصويت بـ”لا” سيمهّد الطريق أمام صياغة دستور جديد قُبيل إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية (بدلاً من العكس)، ولذلك شنّوا حملات إعلامية قوية لتعبئة الناخبين ضد التعديلات المقترحة. بيد أن أغلبية كاسحة من الجسم الانتخابي (نحو 78 في المئة) صوتت لصالح التعديلات التي تبنّاها الإسلاميون والمؤسسة العسكرية. ثم أن الإسلاميين، وخاصة منهم السلفيون، عمّقوا مشاعر الهزيمة هذه في صفوف العلمانيين من خلال تصوير نتائج الاستفتاء الدستوري على أنه تصويت لصالح الإسلام، وأيضاً على أنه تفويض كاسح للإسلام السياسي ورفض لأي فكرة عن فصل الدين والسياسة، هذا على رغم أن أياً من التعديلات المقترحة لا تتعلّق بدور الدين في السياسة أو بشؤون الدولة. وبينما طالب بعض العلمانيين، وكنت من بينهم، بضرورة احترام نتائج الاستفتاء الدستوري والالتزام بمسار الانتخابات البرلمانية أولا التي أقرتها الأغلبية الشعبية، واصل عديد المجموعات العلمانية التشكيك في نتائج الاستفتاء وقدم بذلك مثالا رديئا على الممارسة الديمقراطية التي تحتم قبول نتائج الاستفتاءات والانتخابات الحرة والامتناع عن الانقلاب عليها.
بعد أن واجهت الأحزاب العلمانية في الكتلة المصرية في أوائل 2012 مجلس شعب يُهمين عليه الإسلام السياسي، وبعد أن تجرّعت ما رأته كأس هزيمتها الثانية، قررت الامتناع عن التعاون مع الإسلاميين وحاولت بلورة برنامج مُعارض في البرلمان. وهكذا، ومنذ اليوم الأول لجلسات البرلمان، كانت التوترات وغياب الثقة بين نواب الإخوان والسلفيين وبين النواب العلمانيين في الكتلة واضحة للعيان.
أما الإخوان المسلمون فكانوا يعتبرون السلفيين منافسين لهم وداعبوا فكرة التعاون مع المجموعات العلمانية، لكن حين واجهوا طيفاً علمانياً متشظياً ومعادياً لهم إلى حدّ ما، تحرّكوا للتقارب مع السلفيين، وبذلك عززوا بقوة البرنامج السلفي المحافظ والمتطرف الذي كان عماده فهم رجعي للشريعة وإسباغ لتهمة الكفر على الآراء العلمانية. وخلال الفترة القصيرة من عمر برلمان 2012 (تم حل مجلس الشعب في حزيران/يونيو 2012 بعد قرار من المحكمة الدستورية العليا)، لم تُظهر أي مرحلة أخرى مدى عمق التوترات بين الإسلاميين والعلمانيين وانزلاق الإخوان نحو السلفيين، كتلك المرحلة التي شهدت تشكيل الجمعية التأسيسية المنوط بها وضع دستور جديد للبلاد. نصّت التعديلات الدستورية التي أُقرَّت في ربيع 2011 بأن البرلمان بمجلسيه (مجلس الشعب ومجلس الشورى) سيشكّل الجمعية التأسيسية. في البداية، عمد الإخوان المسلمون، وبفعل حذَرَهم من السلفيين، إلى مفاتحة النواب العلمانيين للاتفاق على كيفية تشكيل الجمعية التأسيسية. غير أن الخلافات التي دبت بين الطرفين بشأن عدد المقاعد المُخصصة للإسلاميين بالمقارنة مع الأحزاب العلمانية في الجمعية التأسيسية أدت إلى إحباط التسوية. في خاتمة المطاف، تشكّلت الجمعية بأغلبية إسلامية وأقلية علمانية ضئيلة للغاية، فانسحب النواب العلمانيون منها وكنت من بين المنسحبين. وفي نيسان/أبريل 2012، أسقطت محكمة إدارية الجمعية التأسيسية حتى قبل أن تبدأ مداولاتها. شُكِّلت جمعية ثانية، سبقتها مرة أخرى مفاوضات فاشلة بين الإسلاميين والأحزاب العلمانية. ومرة أخرى أيضاً تأمّنت أغلبية للإخوان والسلفيين، لكن مع عدد أكبر قليلاً من الأعضاء العلمانيين من كل من البرلمان وخارجه (لم أكن منهم)، وتم تمثيل المؤسسات الدينية الرسمية الإسلامية والمسيحية، جنباً إلى جنب مع الأذرع القضائية والتنفيذية للدولة.
أسفرت الصراعات حول الجمعية التأسيسية إلى مزيد من تقويض الثقة بين أحزاب الإسلام السياسي والعلمانيين. وعمد العلمانيون الرافضون للتعاون مع الإخوان إلى عرقلة الحياة السياسية ونزع الشرعية عن الإطار الدستوري والقانوني الناظم لها، بينما كان الإخوان يواصلون الانزلاق أكثر وأكثر باتجاه السلفيين ورؤيتهم الرجعية. وفي وقت مبكر من ربيع 2012، كانت أحزاب مثل المصريين الأحرار والتجمّع تحث المؤسسة العسكرية على التدخّل في الشأن السياسي وتأجيل وضع الدستور الجديد والانتخابات الرئاسية (ولم يكن قد تحدد موعدها بعد) إلى أن يتم التوصّل إلى موازين قوى أخرى جديدة بين القوى الإسلامية والعلمانية. وحينها صار واضحا أن ثمة خيانة لأمل التحول الديمقراطي في مصر بات يعد لها.
* ينشر هذا المقال بالاتفاق مع مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي ٢٠١٤