لم يمر وقت طويل على استئصال المشرط الخارجي لطركاعة عفلق وشعار دمارها الشامل (العراقي بعثي وإن لم ينتم)، حتى سارعت الحشود المتدفقة من كهوف ومعاهد الحملة الإيمانية، لإعلان البيعة لشيوخ وأمراء حقبة “الفتح الديمقراطي المبين” وشعارها العتيد (تأسلموا تسلموا) والذي لم يشذ قيد أنملة عن سلفه في العداء لما يمثل روح هذه الأرض وسر مراحل توهجها؛ أي الحرية والكرامة والتعددية. ما حصل من تحول قشري وسطحي على صعيد الدولة والمجتمع بعد زوال النظام المباد، يعد أمرا طبيعيا تماماً، فالتغيير حصل بمشيئة ودوافع خارجية لا علاقة لها بظروف البلد المحلية واستعداده لمواجهة مثل تلك التحديات. إن المواجهة الفعلية والجادة لشبكات الفساد والفشل المرافقة لنا طوال عقد ونصف من زوال النظام المباد، تبدأ من وعي هذا الخلل البنيوي والإقرار بحقيقة أن التغيير ليس لم يبدأ وحسب، بل زادته التوجهات والنزاعات الشعبوية الضيقة انحداراً وانحطاطاً. لا يكل فرسان حقبة (التأسلم) هذه؛ عن ترديد نفس العبارات والديباجات حول نفوذهم وشعبيتهم التي لم يستثمروها بتحويل مشروعهم لأسلمة الدولة والمجتمع الى واقع، حيث أماكن اللهو واحتساء المشروبات الكحولية وبيعها ما تزال قائمة، ويعدون ذلك دليلاً على ديمقراطيتهم وسعة صدورهم وتسامحهم تجاه الآخر المختلف، هكذا يمرون على مثل هذه الأمور، من دون التوقف قليلاً عند أسباب مثل هذا النفوذ وعلاقته بحجم الانحطاط الذي انحدرنا اليه قيمياً وأخلاقياً ومعرفياً في العقود الأخيرة من حكم النظام المباد، وقمعه المنظم لكل أشكال التعددية والتنوع الثقافي والسياسي والفكري في البلد. لا يطيقون الاعتراف بحقيقة أن نفوذهم يمثّل الوجه الآخر لذلك القمع الممنهج الذي اتبعه قادة الحملات الإيمانية والرسائل الخالدة في هذه المضارب المنحوسة، والتي لم تبق لحطام تلك التجارب سوى ملاذاتهم التقليدية والبدائية للبقاء على قيد البشر.
إن استمرار هيمنة جماعات الإسلام السياسي اجتماعياً وسياسياً يعكس ما تمر به هذه البلدان والمجتمعات من مأزق حضاري واغتراب هائل عن تحديات عصرها الواقعية، وقد برهنت التجربة العملية لهم في الحكم عن عجز فاضح في التعاطي مع أبسط مستلزمات الدولة الحديثة. وما بقاء بعضها على سدة الحكم فيعود الى استعانتها بالقمع الممنهج لمناوئيها أولاً، وبالآليات والتشريعات الوضعية الحديثة، كما يحصل مع حزب التنمية والعدالة التركي (فرع جماعة الإخوان المسلمين)، ومع تجرية جمهورية الفقيه في إيران، وقد يمثّل حزب النهضة التونسي مثالاً أكثر وضوحاً لأفول عصر الأسلمة وورسالته الخالدة (الإسلام هو الحل). لقد أكدت الأحداث الكارثية التي حلّت على مضاربنا منذ نهاية السبعينيات الى يومنا هذا مدى دقة هذه العبارة التي تقول: (كان المسلمون إخوة قبل أن يظهر الإخوان المسلمين) تلك الجماعة التي اندلقت من رحمها كل سلالات “التكفير والهجرة” وتوجت بعصابات القاعدة وطالبان وداعش، وأهدت بلدها (مصر) آخر ابتكارات مراكز بحوث نجد وقندهار ودور الأزياء الباكستانية وتقنيات تخصيب كراهية الآخر المختلف، وغير ذلك من بضائع وسرديات الموتى. ما يجري في مصر على سبيل المثال لا الحصر؛ من تبادل للأدوار وتمويه في الاصطفافات والتحالفات بين جماعة العسكر وجماعة الإخوان والمتجحفلين معهما بمصالح ومشاريع فئوية ضيقة؛ يدعونا للتنقيب بعيداً عن هذه البرك الآسنة والمصالح والعقائد والعقليات التي فتكت لا بحقوقنا المشروعة في الحرية والكرامة وحسب بل بما تبقى لنا من فطرة إنسانية سليمة..
جمال جصاني
وجهان لرسالة خالدة..!
التعليقات مغلقة