عمرو حمزاوي
لست اليوم في وارد سرد وتفسير العوامل الكثيرة التي دفعت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى التورط في إعلان اعتبار القدس عاصمة لدولة إسرائيل، من الحسابات السياسية الداخلية في الولايات المتحدة إلى وضعية الوهن التي تحيط بالسلطة الفلسطينية وحركة حماس وبحكومات العرب والتي حفزت إدارة ترامب على فعلتها. ما يعنيني هو البحث فيما يمكن عمله من قبل الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والحكومات والمنظمات العالمية المتعاطفة مع الحق الفلسطيني.
من جهة أولى، لن يسقط فعلة ترامب المتغطرسة غير انتفاضة فلسطينية سلمية تمتد من القدس والضفة الغربية وقطاع غزة إلى داخل دولة إسرائيل ولا تتوقف لا بعد أسابيع ولا شهور. في الإعلان عن اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، استندت الإدارة الأمريكية مدعومة بحكومة اليمين التي يقودها بنيامين نتنياهو إلى توقع مفاده أن الاحتجاجات والتظاهرات التي ستشهدها المدن الفلسطينية في أعقاب الإعلان الأمريكي ستأتي محدودة إن من حيث المشاركة الشعبية أو من حيث فترة استمرارها. «لم تسقط السماء»، هكذا تحدث أحد الرسميين في إدارة ترامب بعد مرور أيام على الإعلان الأمريكي لكي يدلل على أن التداعيات الخطيرة التي حذرت منها السلطة الفلسطينية والحكومات العربية وبعض الحكومات الأوروبية اتسمت بالمبالغة وغابت كليا عن المشهد الفلسطيني. توقعت إدارة ترامب احتجاجات محدودة، بعض أعمال العنف والشغب والمواجهات بين المتظاهرين الفلسطينيين وبين قوات الأمن الإسرائيلية، عددا محدودا من القتلى والمصابين، ثم يعود «الهدوء» وينصرف الناس من مواجهة القوات الإسرائيلية إلى مواجهة ظروف الحياة الصعبة والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتردية. ولن يسقط حسبة إدارة ترامب هذه، وبالتبعية لن يسقط فعلته، غير انتفاضة فلسطينية سلمية ومستدامة تكتب على راياتها الدفاع عن عروبة القدس وعن الحق الفلسطيني في التحرر الوطني وبناء الدولة المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية وإقرار حق العودة وإنهاء وجود المستوطنات والمستوطنين في الأراضي الفلسطينية التي احتلت في 1967.
لم يبق على القضية العادلة للشعب الفلسطيني حية سوى مقاومة الفلسطينيين خلال المئة عام الماضية (1917 -2017)، تلك المقاومة التي دخلت في أطوار عديدة من النضال المسلح إلى التفاوض ومن مقاومة نسيان الظلم التاريخي الذي أنزل بهم إلى توارث مقومات الهوية الوطنية الفلسطينية عبر الأجيال المتعاقبة وفي الشتات العربي والعالمي. واليوم أيضا لن ينقذ القدس من سياسات فرض الأمر الواقع الإسرائيلية ومن الغطرسة الأمريكية سوى مقاومة الفلسطينيين. ولأن مواجهة إرهاب الدولة الذي تمارسه حكومة إسرائيل في القدس والضفة وغزة بأعمال عنف وشغب أو بتورط في عمليات إرهابية لن تذهب بالفلسطينيين بعيدا وستعني سقوط الكثير من الضحايا بين شهداء ومصابين وحدوث دمار في المدن الفلسطينية كما ستفقدهم التعاطف العالمي مع قضيتهم العادلة، فإن المطلوب هو انتفاضة سلمية ومستدامة توظف أدوات الاحتجاج والتظاهر والعصيان المدني والمقاطعة الشعبية بديلا لإطلاق بعض الصواريخ على المستوطنات الإسرائيلية أو لتفجيرات انتحارية في محطات الحافلات. ولأن المستوطنين الذين تواصل الحكومة الإسرائيلية بناء البيوت لهم في القدس والضفة الغربية هم الطائفة المستفيدة قبل غيرها من الإعلان الأمريكي الذي سيخرج المستوطنات في القدس من دائرة بعض إجراءات الحظر التجاري المفروضة على المستوطنات، فإن انتفاضة الفلسطينيين ينبغي أن تتضمن مقاطعة شاملة للمستوطنات وابتعادا كاملا عن العمل بها من قبل عمال البناء الفلسطينيين وغيرهم (على الرغم من شظف العيش وصعوبة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في عموم فلسطين). ولأن الولايات المتحدة تورطت بإعلانها اعتبار القدس عاصمة لدولة الاحتلال والاستيطان في التنكر للحقوق الفلسطينية المشروعة وفي ضرب الحائط بقرارات الشرعية الدولية، فإن إجراءات المقاطعة الشعبية ينبغي أن تمتد إلى المصالح الرسمية للولايات المتحدة الأمريكية (من ممثلياتها الدبلوماسية ومكاتبها الثقافية إلى بعثاتها التجارية). ولأن الأداة الأهم في يد الشعب الفلسطيني خلال المئة عام الماضية كانت مقاومة السلطة الإسرائيلية الغاشمة واستعمارها واحتلالها واستيطانها عبر مقاومة النسيان وحماية الحقوق الفلسطينية والهوية الوطنية الفلسطينية من السقوط في غياهب الانحسار والتجاهل والإلغاء، فإن انتفاضة جديدة يتعين عليها حماية هوية القدس الفلسطينية والعربية من النسيان الذي تسعى سياسات الأمر الواقع الإسرائيلية إلى فرضه.
من جهة ثانية، ليس أمام الشعوب العربية غير التضامن مع الشعب الفلسطيني بإطلاق حملات مقاطعة المصالح والمنتجات الإسرائيلية حيثما حضرت عربيا وبمقاطعة المصالح الرسمية للولايات المتحدة. وحين تتحرر السلطة الفلسطينية أو بعض الحكومات العربية من قيود الوهن والخوف ومن حسابات المصالح التي تربط أغلبيتها بالحكومة الإسرائيلية وبالإدارة الأمريكية وتقدم على أفعال رمزية يستشف منها أيضا المقاطعة كقرار السلطة الفلسطينية رفض استقبال نائب الرئيس الأمريكي مايكل بنس خلال زيارته القادمة للشرق الأوسط، فإنها بذلك تكتسب لذاتها شيئا من المصداقية الشعبية وتقلل من الفجوة العميقة الفاصلة بينها وبينها الناس. وحين تتشجع بعض المؤسسات الرسمية العربية وتمارس أيضا فعل المقاطعة باتجاه إسرائيل والمصالح الرسمية للولايات المتحدة مثلما أعلن شيخ الأزهر وبابا الكنيسة المرقسية رفض لقاء نائب الرئيس الأمريكي، فإنها تتماهى أيضا مع المشاعر الشعبية في المجتمعات العربية التي تعارض تمرير الإعلان الأمريكي اعتبار القدس عاصمة لإسرائيل كشر متوقع وتريد أن تواجهه سلميا ورمزيا. إن أمكن إطلاقه، سيجد تضامن الشعوب العربية مع حملات مقاطعة المصالح والمنتجات الإسرائيلية في فلسطين وخارجها العديد من الأطر والفعاليات غير الحكومية التي تنظم جهود المقاطعة وتحركها سلميا باتجاه المصالح الرسمية كمكاتب التمثيل الدبلوماسي والتجاري الإسرائيلية وباتجاه المؤسسات الأكاديمية والثقافية والرياضية التي لابد من مقاطعتها لكي ترتفع كلفة سياسات الاحتلال والاستيطان داخل إسرائيل وباتجاه المنتجات التجارية والتكنولوجية وغيرها. أما مقاطعة المصالح الرسمية للولايات المتحدة فجوهره الابتعاد عن الأنشطة والفعاليات التي تنظمها السفارات والمكاتب الدبلوماسية الأمريكية في البلدان العربية إلى أن تعيد هذه الإدارة البائسة أو الإدارة التي ستخلفها النظر في إعلانها المتغطرس.
من جهة ثالثة، لا تعدم القضية الفلسطينية العادلة الدعم العالمي من قبل المجتمعات المدنية على امتداد ساحات كثيرة ومتنوعة. يأتي هنا في مرتبة متقدمة التواصل مع حركات مقاطعة إسرائيل وتطوير عملها وأنشطتها بتضامن فلسطيني وعربي واسع، ومساعدتها على اكتساب دعم الشعوب البعيدة عنا للحقوق الفلسطينية من خلال الالتزام الشامل بانتفاضة سلمية ومستدامة والإدانة الصريحة لكل أعمال العنف والإرهاب التي لم يعد بالإمكان تبريرها حتى والفلسطينيون يواجهون إرهاب الدولة وشر آلة القتل الإسرائيلية.
انتفاضة جديدة تلتزم بالسلمية وتتسم بالاستدامة هي الحل الوحيد لإنقاذ القدس وإسقاط الإعلان الأمريكي ومن قبله وضع حد لجرائم إسرائيل احتلالا واستيطانا وفرضا للأمر الواقع. الانتفاضة السلمية هي الحل الوحيد لإطلاق جهود الشعوب العربية للتضامن مع الشعب الفلسطيني بعيدا عن حكوماتها الواهنة والخائفة، وهي أيضا الحل الوحيد لتجديد دماء التعاطف العالمي مع الحقوق الفلسطينية العادلة. دون ذلك ستنجح للأسف الحسبة المتغطرسة لإدارة ترامب وستبرهن حكومة اليمين في إسرائيل على سهولة فرض الأمر الواقع على الفلسطينيين والعرب ومحدودية تداعيات الاحتلال والاستيطان.
* ينشر هذا المقال بالاتفاق مع مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي ٢٠١٤
لقراءة النص الأصلي٬ اتبع الرابط التالي: http://carnegieendowment.org/sada