علي حسن الفواز
إخفاق مشروع الحداثة، يعني- في الجوهر- إخفاقاً لمشروع التعليم، ولهشاشة العقل النقدي في مواجهة(مركزيات) التاريخ والسلطة والجماعة، وكلها تنظر الى فكرة التحديث بريبة، وتضعها خارج السياق وخارج الاستعمال..
ومع الذكرى الثامنة والثلاثين بعد المائة لولادة طه حسين يثار سؤال الإخفاق مرة أخرى، الإخفاق الذي يمسّ وظائف النخب الثقافية والمؤسسات والسلطة، والذي يستدعي فحصاً ومراجعة لكل ماجرى!! وكيف باتت الحداثة في نظر الأصوليات بُدعة، والعلمنة زندقة، والعقل النقدي خروجا على الملّة والأمة؟ وهل يمكن مقاربة أنموذجه التنويري إزاء مجريات التعقيد الذي واجهتها حركات التجديد؟
أحسب أن تشوه القيم الحداثة وسوء قراءتها وتوظيفها يكشف عن أزمة النظام الاجتماعي، وعن أزمة المؤسسات، وأزمة السلطة، وهذا بطبيعة الحال يُلقي بظلاله على فهم الحداثة، وعلى علاقتها بتعقيد الأفكار ونُظم التعليم السائدة، والكشف عن تأثراتها بالتحولات الثقافية والحضارية الغربية عبر الترجمات وعبر وجود الجامعات والحريات والحقوق، وهذا مايجعل مفهوم الحداثة جزءا من الفعالية التاريخية وليس خارجها، ولعلنا نذكر أن صدور الطبعة الأولى من كتاب طه حسين(في الشعر الجاهلي) يرتبط بوجود لطفي السيد الشخصية تنويرية واصلاحية على رأس المؤسسة الجامعية، كما أن موضوع أطروحة الدكتوراه (ذكرى أبي العلاء) أثار ضجة في الأوساط الدينية، وتَعرّض جرّاءها للإتهام بالمروق والزندقة والخروج على مبادئ الدين الحنيف، لكن الفضاء الثقافي والسياسي المدني كان هو القوة الحمائية التي خففت من غلواء المواقف إزاءه.
دراسة طه حسين للعلوم الأزهرية والعلوم الحديثة في آن معاً أعطته دافعاً معرفيا لأنسنة العلم الديني من جانب، ولايجاد فضاء تنافذي مع قارباتها النقدية من جانب آخر، فضلا عن بيان نزعته لتبني الفكر التحليلي الديكارتي، وللتأثر بالمناهج والفلسفات الحديثة والإيمان بها، وهو ما انعكس على عمله التعليمي، وعمله البحثي، فكان استيزاره لوزارة المعارف عام 1950مدخلا لإشاعة التعليم العمومي في مصر، واعتبار التعليم ضرورياً مثل الهواء والماء، مثلما كان عمله البحثي منذ بدايات القرن العشرين عاصفاً في إثارة الكثير من الجدل والأسئلة، والمفارقة في النظر الى قضايا التاريخ الاشكالية..
كتاب طه حسين المثير للجدل «في الشعر الجاهلي» تحوّل الى أثر في النقد التاريخي لمثل تلك القضايا، إذ اعتمد على المبدأ الشكّي لديكارت، واجتهد في النظر اليه بوصفه شعراً منحولا، وأن أغلب قصائد هذا الشعر مكتوبة في العصر الاسلامي، ولا علاقة لها بالعصر الجاهلي. هذا الحكم كان جزءا من منهجية قراءته التحليلية للنصوص والأفكار والمجازات والصور، وهو ما أخضعه للمساءلة والتصويب من قبل العديد من علماء الأزهر والجامعة ومنهم مصطفى صادق الرافعي ومحمود شاكر، وبقصد إساءته للتاريخ، فتراجع عن الفقرات المثيرة للجدل، وغيّر من عنوان الكتاب الى ( في الأدب الجاهلي)..
استعادة الحديث عن طه حسين- اليوم- يعني استعادة الحديث عن مأزق التحديث، وطبيعة النظرة العميقة للحداثة، وللتاريخ، والى قيم التعارض بينهما، فضلا عن تعالقها بالأسئلة التي تخص قيم النقد والعقلانية، والتي أكدتها عنه عباس محمود العقاد قائلا: إنه رجل جريء العقل مفطور على المناجزة، والتحدي فاستطاع بذلك نقل الحراك الثقافي بين القديم، والحديث من دائرته الضيقة التي كان عليها إلى مستوى أوسع وأرحب بكثير.
جرأة طه حسين وثقته بنظرته العلمية ومنهجه التحليلي، جعلته أكثر حيازة للشجاعة في مواجهة أزمات الجهل والتخلف، وأزمات الثقافة الرسمية، وضعف التعليم في الجامعة وفي المدارس الحكومية، وكذلك في النظر الى العلاقة مع ثقافة الآخر، والتي باتت مُخرجاتها تُعبّر عن جوهر المحنة التي يعيشها العقل العربي، إذ يعيش هذا العقل غربته العميقة، وخفّته أمام التاريخ السحري للماضي، ولرمزيته العصابية، ولعل كتاب طه حسين عن الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون يؤكد وعيه العميق لتمثلات العمران الثقافي التي أثارها ابن خلدون في نظرته للعصبية، وللجماعة وللدولة..
كتب طه حسين في الرواية وفي النقد وفي البحث التاريخي والقانوني، وفي الدرس الاجتماعي، لكنه ظل في أعماقة أكثر تمثلا لثقافة العقل بوصفه القوة التي تحفّز على التفكير الحر، وعلى مواجهة التخلف بمسؤولية تلك الحرية، وبقدرة الانسان على تجاوز واقعه، واستشراف معطيات المستقبل من خلال تعزيز قيمة العقل وتمكينه من أن يكون الرائد والموجّه في النقد والتأسيس وفي النظر الى الوجود..
في ذكرى ولادة طه حسين.. استعادة العقل النقدي
التعليقات مغلقة