محمد سهيل احمد
كان الرجل العجوز نصف نائم حين شعر بمعدن بارد يصافح صدغه، أدرك لحظتها وهو يفتح عينيه بإجهاد أنه فوهة مسدس كاتم للصوت. بذل العجوز مجهوداً خارقاً كي يحتفظ بعينيه فاغرتين على وسعهما، ويدرك أن ما يراه ليس جزءاً من كابوس استيقظ منه للتو. كان صاحب المسدس جالساً على كرسي مجاور للسرير الذي يرقد عليه ذلك النزيل الأشيب، في واحدة من غرف فندق تؤوي بحارة تجاراً أفلسوا في أيام نحس، مجانين أرصفة، مشردين، شحاذين، عمال مسطر قدموا من بلدات نائية، أو حمالين أودعوا عرباتهم في ساحات مبيت مؤجرة، حاشرين أجسادهم في مكعبات ذات جدران لا تدفع برداً قريراً ولا قيظاً لاهباً، على مدار السنة. اندفع هواء بارد لسع جبهة الرجل المسن الناضحة بالعرق. راح يتراعش مدركاً أن حامل المسدس هو الذي دفع بمصراع النافذة إلى الداخل متيحاً لموجات البرد أن تلج المكان، بعد أن كان ـ قبيل قيلولته الطويلة- قد أحكم إقفالها . كانت الغرفة شبه عارية إذ لم تكن تضم سوى سرير متهالك الأرجل على بلاط متثلم الحافات ترقد تحت نوابضه، جهة القدمين، حقيبة سفر متهتكة السيور تكورت كصرّة ملابس، كانت بجوارها فردتا حذاء القمتا جوربين أكحلين غزتهما الثقوب. كان حامل الكاتم شاباً نحيل القوام يرتدي قميصاً قاتم اللون، ويضع حول بنصره خاتماً ذا فص شذري مقبب. استعاد العجوز جانباً من سكينته حين أبعد الشاب المسدس عن صدغه ملقياً به على الطاولة المجاورة:
-انها زيارتك الثالثة.. اليس كذلك ؟
اطلق الفتى ضحكة معدنية جوفاء:
– لا أعرف.. الحساب عندك !
رفع النزيل عينيه إلى اعلى:
– ليس عندي ولا عندك ! يفترض بك أن تعرف..
هز الفتى رأسه:
– لا شك في أنني أعرف هذا الأمر في الأقل. لكنني ما جئت لكي أعرف ما أعرفه سلفاً، انما لكي أعرف عنك المزيد !
– ولكن الأوامر هي الأوامر. أليس كذلك؟
-هذه المرة لم يرسلني أحد..
– لم جئت اذن. لكي تتفرج على ما أنا فيه من حال ؟
– لعلي أحشر أنفي..
-اذن اسمع ما أود ذكره لك… لم أعد أشرب كما كنت أفعل في ما مضى حين كانت محفظتي متخمة بالمال.. لكنني لا أستطيع عن ذلك فكاكا، مع أن مرات التعاطي تتقلص يوماً من بعد يوم..
-أتعني انك ستهجر الـ..؟
-هو الذي سيهجرني. لا اكذب عليك. مازلت أشرب لكن ليس من جيبي الخاص.. لك ان تفعل ما انت مأمور به. أجهز عليّ إن كان أمر كهذا يضيف اليك حفنة من الدنانير تنفق بها على نفسك أو على أمك وأبيك!.. أما عن كوني أتاجر بالخمور. فهي تهمة باطلة ليس الا، لم يعد لديّ ما اخسره فافعل ما بدا لك!
أشار الشاب إلى زجاجة ماركة (برج لندن) فارغة على المنضدة وإلى صحن به قلب تفاح ذاوٍ ملتو وقشور خيار وحمص مسلوق، اعلن:
-الآن تأكد لي أنك لا تريد أن .. أعني..
– كلا.. أنا بالكاد أملك إيجار غرفتي هذه. لكن صديقاً زارني قبل أيام. هو من تكفل بالسهرة ! فقط أريد منك أمراً.. إما ان تبطش بي الآن أو تنصرف بلا عودة !
– هذه المرة قادني فضولي لمعرفة دواعي ادمانك. عمي مثلا أدمن الخمرة والتدخين فقضتا عليه بسرطان ماتحت اللسان. أهو نوع من أنواع العشق؟.
– الهرب.. ربما . ولكن قل لي هل لديك سيارة من نوع البطة ؟
– لا بد أنك تمزح..آه يالها من نكتة صارت حديث الألسن.
– اوبل مثلا او بي ام دبليو.. كما نسمع ونقرأ في الجرائد؟
أطلق الفتى ضحكة :
– كلا.. قدمت على ظهر سلحفاة !
بادله العجوز الضحك :
– آه، الفولكسواغن..هل تعلم؟ هتلر كان يهديها للشباب الألمان قبل ان يقتادهم لساحات القتال !
راح الفتى يتأمل تقويماً معلقاً على الجدار يمثل حسناء تسكب بيد رقيقة شلالاً ذهبياً من زجاجة بيرة ،مكتوب عليها اسم ديانا في كأس نحيلة لم تكن تفتقد رشاقة الخطوط.أشار إلى التقويم في صمت. عقب النزيل :
– أيام الخمسينيات والستينيات، بل وحتى أواخر السبعينيات كانت أياماً ذهبية،وخادعة في آن معا.. كان في شارع الوطن وحده مائة ركن وركن، بل أكثر. أجل..كنت بحاراً وجوّاب آفاق.. وطئت قدماي الف ميناء وميناء. كانت البيرة تخطف الأبصار بلونها الذهبي ولذعات إكسيرها المثلج، لكن مذاقها كان خالياً من مذاق البيت، جلسات الأصحاب..أجل كنت في كل مرة أغادر الميناء اشعر بيد خفية تجتذبني إلى الوراء.
– مثل يد امرأة تعشقك؟
– لم أكن واثقاً. لم تكن لي امرأة من مدينتي. لعل مدينة كالبصرة تمتلك أذرعاً خفية تتشبث بك. تأخذ بخناقك.. فتعود مخلفاً وراءك ألف متعة ومتعة.. هناك في أعالي البحار حيث سواحل قبرص المشمسة، أزقة مرسيليا الضيقة، كرنفالات ساوباولو، بنسيونات اسطمبول السرية، نساء بجمال اسطوري..شرفات مضاءة بمصابيح، تافيرنات ساحة بلاكا قرب الاكروبوليس حيث يشوى اللحم وتراق الأنبذة وترقص الأجساد رقصة زوربا على إيقاعات البوزوكي والسنطورين ، كان ذلك شكلاً من أشكال الانجراف أو النسيان.. ربما ! مررنا بألف ميناء وميناء وعبرت مراكبنا الف جزيرة وجزيرة. ولكنني كنت أهجر ذلك كله وأعود وكلي حنين إلى البصرة، أزقتها؛ سواقيها الآسنة، بيوتها المتهالكة، انهارها المنطمرة، بساتين نخيلها، شوارعها المتربة وهي تقودني إلى مقاهٍ تضم بين جدرانها مخلوقات تداوي الوقت بقتل الوقت، تلهو بالشجار والثرثرة او بأحجار الدومينو ولثم مباسم الأرجيلات، جعل وجه مدينتي، وقد انهكته الحروب والغزوات يزداد تغضناً يوماً في إثر يوم. لم ألحظ ذلك في بادئ الأمر.. ربما لقصر اجازاتي، على تعددها، وربما لأنني لم أكن بهذا العوز وسوء الحال الذي أنا عليه اليوم، وربما لأنني كنت أخادع نفسي بارتياد علب اللهو، كنت أحسب أن البصرة مدينة أخرى من صنع أحلام الشباب، لا تتعدى مساحاتها ركناً هادئاً على ضفة نهر وطاولة وزجاجة، كنت من خلال الكأس الأولى أو الثانية أسرق لحظات ابتهاج قصيرة ابصر المدينة مثلما كانت عليه في ما مضى.. تلك لحظات انتشاء عابرة سرعان ما تتبدد كغيوم الصيف.كانت المدينة اشبه بامرأة التقيها في ليلة حافلة بالظلال فيبدو لي وجهها المطلي بالمساحيق كأجمل ما يكون، حتى اذا ما انبلج النهار؛ اتضحت لي الحقيقة سافرة كشمس!..
– هل صرت تبغض مدينتك ؟
– مستحيل. إنني لا أتوقف عن عشقها ولكنني أرثي لكلينا..أنا والمدينة! والان. إما أن تنفذ ما يتعين عليك إنجازه. أو تنصرف بلا أدنى تأخير! ولكن قل لي.. أين تعمل حاليا؟
أطرق الشاب مغمغما:
– ما زلت عاطلاً عن العمل.
قبل ان ينصرف العجوز إلى اغفاءة ثانية، نهض بتباطؤ ميمماً صوب روزنامة الجدار مستلا من خلفها ورقة نقدية خضراء، مستغلا انهماك الفتى بتأمل كائنات الخارج عبر النافذة، واضعاً إياها على الطاولة العارية. في الخارج ارتفع دوي انفجار هائل مصحوب بعصف شديد ارتج له مصراعا النافذة. أسرع الفتى بإقفالهما، التقط الورقة النقدية ودسّها في جيب بنطاله ثم انصرف مغلقاً الباب وراءه في هدوء من دون أن يلقي نظرة واحدة على البحار العجوز الذي استغرق في نوم عميق.