عبد علي حسن
فتحت الرواية الجديدة في فرنسا — منذ ستينات القرن الماضي — الباب على مصراعيه للمساهمة في زحزحة الإيمان بالمسلمات وثوابت التجنيس في الرواية التقليدية على اختلاف أنواعها ، ولاشك بأن هذه المساهمة سوف لن تخرج عن دائرة التجريب المرافق لمنهجيات ما بعد الحداثة التي هتكت أعراف الثنائيات والثبات والسكون في مجمل خطابات الحداثة ، ومن هذه الخطابات إلغاء التجنيس وظهور أشكال جديدة لا إجناسية ومنها النص المفتوح والتحول عن الرواية إلى ما بعدها وعلى حد سارتر إلى اللارواية ، وفق آليات طرحتها على سبيل التجريب والتجاوز نصوص رواد هذه الرواية الجديدة /ميشيل بوتور/ ناتالي ساروت / ألان روب غرييه /كلود سيمون ..وسواهم .
لقد تفاعلت الرواية العربية مع موجهات هذه (الرواية الجديدة) مستفيدة من إمكانيات التداخل بين الأجناس والإقتراض من المكونات التجنيسية للمنجز الشعري والسرد العربي القديم بما يتضمنه من روايات ويوميات ووثائق في تقديم جهد روائي يسهم في تجاوز الراكد والثابت في ما أنجزته الرواية العربية التقليدية التي شهدت تطورا ملحوظا منذ ستينيات القرن الماضي ، ومن هذه الباب التجريبية الواسعة دخلت محكيات (انتظار السمرمر) للكاتبة العراقية المغتربة فيحاء السامرائي والصادرة عن دار مكتبة عدنان للطباعة والنشر والتوزيع / العراق/ بغداد ط1 2017 ، لتقدم سبع حكايات مقتفية الأثر التراثي في طبيعة الروي الذي عرف بالحكاية ، وعلى وفق آليات بنائية خضعت لجهد تجريبي كشفت عنه الكاتبة في الغلاف الأخير من الكتاب ( انها ليست رواية ، بل ذرية من حكايات، ذاكرة حكي انتقائية، تعاريج قص من دون تتابع زمني، تخلو من لغة مشفرة ونخبوية وعرة )، وسنتقصى بنائية هذه المحكيات التي أرادت الكاتبة لها ان تمتد على مساحة مايربو على نصف قرن من الزمن تتضمن أحداث ووقائع بانورامية وتأريخية واجتماعية وسياسية ، ويشكل الزمن السردي تفاصيل لحياة وطن وإمراة لا تبتعد كثيرا عن مكونات الكاتبة ذاتها ، ولعل ذلك ما يشكل الجانب السير–ذاتي في هذه المحكيات التي حملت العدد (سبعة ) المقدس في الميثولوجية العراقية والدينية وحتى الأجتماعية لتقترب هذه المحكيات من الأنساق المكونة للتراث السردي العربي القديم والممتد في النسيج السردي العربي المعاصر .
شاءت الكاتبة أن تضع وحدة سردية في بداية كل (محكية) بنيت على وفق آلية ميتاسردية أفصحت عن كيفية كتابة ومصادر هذه المحكيات ، كما شاءت ان يكون الراوي كلي العلم هو (متنزه) غير معرف إلا انه مكان يشهد ولادة هذه المحكيات عبر سرد قصة كاتب المحكيات وكذلك محكياته ، واذ أوكلت عملية السرد إلى المتنزه فإنها كانت تشير الى حيادية الطبيعة ونقاءها وقابليتها على احتضان الإنسان واحباطاته ، كما ان ظهور المرأة في المتنزه ومراقبتها للرجل وشغفها في مطالعة ما يكتب كان ضمن اللعبة الميتاسردية التي مارستها الكاتبة عند بداية كل محكية .
لقد قامت الكاتبة بترحيل آلية السرد – الموكلة الى المتنزه بعدها راو كلي العلم — الى رواة آخرين لكل وحدة سردية ضمن المحكية الواحدة بطريقة التوالد الحكائي تعيد للاذهان بنائية واسلوب( الف ليلة وليلة ) في السرد العربي القديم ، على سبيل المثال فإن الوحدة السردية الاولى في المحكية الاولى تحمل عنوان ( مدينة السرو) وهذه المدينة ستتولى عملية السرد حتى تنتهي بمفردة (المخيم) ليبدأ هذا (المخيم ) بسرد حكايته ومايتضمنه ومايحدث فيه باستخدام ضمير المتكلم (أنا) وهكذا عند بداية ونهاية كل وحدة سردية مكونة للمحكيات التي احتفظت كل محكية باستقلالية أحداثها وشخصياتها حتى لتغدو كل محكية كانها قصة قصيرة ، وقد أشارت الكاتبة الى ذلك في مقدمة المحكية الثانية على لسان رجل المصطبة كاتب المحكيات (نسيت ان أخبرك أن بإمكانك قراءة كل محكية بشكل منفرد ، رغم ان خيط السرد سيظل يربط بين بعض الشخصيات الأساسية …النص ص41) موجهاً حديثه الى السيدة التي تولت قراءة المحكيات ، وكان بالامكان عدم الإشارة الى ذلك وترك اكتشافه من قبل القارئ لتكون تقنية فنية تتضمن سعي المحكيات الى ضخ أحداث متفرقة في ازمنة مختلفة وامكنة مختلفة ليخرج –القارئ — بتصور حول ماتعرضت له الشخصية المركزية عودة العراقية ( نيدابا ) في رحلة الحرص على كيانها الانساني وتوزعها في بلدان الشتات والهجرة بين محطات ومجتمعات لاتنتمي اليها من قريب او بعيد سوى انها امكنة تشعرها بالأمان والوجود البشري في الوقت الذي تبعدها عن جذورها التي تشعر بالحنين الدائم اليها وتنتظر العودة اليها مجددا لتحمل هويتها مرة أخرى بعد ان فقدتها بين خرائط البلدان ، ولعل ماذهبنا اليه آنفا يعد مدلولا لدالة غلاف المحكيات بعلامتيه البصرية واللغوية ، ف (السمرمر ) الطائر الذي ينتظره المزارعون ليخلصهم من الجراد الذي يأكل مزروعاتهم هو دالة لمدلول مؤجل يراد به انتظارا للخلاص من الوضع اللاانساني والإستثنائي الذي يخيم على العراق بوجود نظام البعث البائد الذي حرق الحرث والنسل وامتداد حالة الانتظار لما بعد 2003 ايضاً ، كما ان العلامة البصرية مجسدة باللوحة التشكيلية للفنان مؤيد محسن قد تماهت تماما وحالة الانتظار، اذ ان وجود الحقيبة والحمامة الواقفة عليها ذات مدلول واضح لحالة السفر والهجرة الدائمة لشخصية المحكيات ميدابا المنتظرة وضع حد لما يتعرض له العراقيون.
ان قيام (45) راو بمهمة الراوي كلي العلم فضلا عن الراوي المركزي (المتنزه) وامتلاكه خاصية الأنسنة وامتداد هؤلاء الرواة على مساحة المحكايات في صفحاتها ال (397) وبتعدد امتلاكهم التوصيف المكاني والزماني والمعنوي ، قد قام بوظيفتين ، الأولى هي الإحاطة بكل مجريات الأحداث التي مرت بها الشخصية المركزية (المحكي عنها) بما في ذلك ماترسب في ذاكرتها من تفاصيل المكان الأول (الوطن) وامتلاك حرية الراوي في السرد المنفتح على فضاءات متعددة تعد الذخيرة الموضوعية والمادة الأساسية للمحكيات فضلا عن امتلاك هؤلاء الرواة الافتراضيين خاصية الحياد وعدهم الشهود الموضوعيين على مجريات الأحداث وحركتها المتصاعدة باتجاه محايثة ومرافقة (نيدابا) في رحلة عذابها والظلم الذي تعرضت له وأجبرها على رزم حقائبها للتجول في البلدان بعيدا عن الوطن المسور بالانتهاك والإكراهات ، اذ ان بعد كل محكية نجد انفسنا امام السؤال الكبير الذي تضعه السيدة قارئة المحكيات في نهاية كل محكية حول المصير المجهول الذي سيؤول اليه أمر نيدابا وما ستفعله فيما بعد. اما الوظيفة الثانية فهي تمهيد السبيل أمام المتلقي لمعرفة المحطات الزمانية والمكانية وحتى المعنوية التي عدت الحبل السري الذي يربط أحداث المحكيات وان بدت بشكل منفصل وذو استقلالية سردية . كما ان هذه البوليفونية المتسعة للرواة قد عكست قدرة الكاتبة على الحفاظ على استقلالية ووجهة نظر كل راو بقطع النظر عن خاصيته مكانية كانت ام زمانية، فقد كانوا يحكون بموضوعية محيطة بموجهات المحكيات التي كانت تسعى الى كتابة تأريخ الجور والظلم في وطن يندابا (العراق) والجهود والمخاطر التي يتعرض لها من يحاول الهجرة والأغتراب ، ولعل ماتعرضت له ميدابا يعد نموذجا جمعيا لماتعرض ويتعرض له العراقيون في ظل حكم الأنظمة الجائرة والدكتاتورية ، لتبقى محاولات الهجرة والاغتراب محض محطة انتظار لنهاية الوضع الاستثنائي ولشدة وقع ذلك الظلم وعدم توفر امكانيات الخروج من الأنفاق المتعددة التي وجد فيها المواطن العراقي نفسه محاطا بالظلمة واليأس والتشبث بالانتظار بعده الحالة المثلى التي تمنح الأمل في وضع حد لما يجري ، ولعل انشداد وانجذاب المغترب العراقي ممثلا بشخصية ميدابا للوطن على الرغم من توفر الأمن والأمان في بلدان الشتات والمهجر انما انعكاس لمعاناة فقدان الهوية بكل انتماءاتها الوطنية منها والقومية والدينية كما وتعكس حالة عدم امكانية الاندماج في نسيج المجتمعات الجديدة التي هاجروا اليها ، لذلك فإن ذاكرة ميدابا كانت منسحبة بالكامل الى الجذور في محاولة للحفاظ على هوية مفتقدة تتوسل بالأمل خلاصا من حالة التأرجح بين هوية مفقودة تشكل رفدا مستمرا لهوية مستلبة لم تتمكن الشخصية من تحقيقها في مجتمع الغربة ، لذلك بدت أحداث الماضي بنية مركزية هيمنت على مجريات المحكيات مؤكدة توق الرجل كاتب المحكيات — الذي ارتدى قناع الكاتبة ذاتها –ليس إلى العيش في الماضي كما افترضت السيدة قارئة المحكيات وانما لاستخلاص موقف نهائي تجسد في نهاية المحكيات وموقف الكاتب بتمزيق أوراقه وتركها للريح متوصلا الى ان الأمل ممكن ان يكون خلاصا بعد نفاذ محاولات التخلص من حالة الانتظار .
لقد تبدت السمة الانثوية للـ (محكيات) عبر جملة من الاجراءات السردية ، فالكاتبة انثى والشخصية التي كانت مدار المحكيات انثى كما ان المطلعة على المحكيات انثى ، وقد اسهمت هذه الخاصية في تفرد الأسلوب الأنثوي في كتابة المحكيات من حيث الصياغة (احداث/شخصيات) وكذلك الصياغات اللغوية التي عكست شفافية بليغة شكلتها شعرية اللغة السردية المعبرة عن الشخصيات وفضاءات الحنين الى الوطن ، كما ان استخدام اللهجات العامية العربية والعراقية على نحو الخصوص قد امتلك فعل التغريب الذي يلفت النظر الى تكريس المكون اللغوي في ذات الشخصية بعده مكونا وطنيا للهوية . وإجمالا فإن محكيات ( انتظار السمرمر) محاولا للتمسك بالجذور بديلا لفقدان هوية المغترب وكما تعد خروجا وتجريبا روائيا مستثمرا لما استقر في الذاكرة الجمعية من موجهات السرد العربي القديم للاقتراب من الهوية الجمعية .
محكيات الكاتبة فيحاء السامرائي تجربة جديدة تضاف الى تجارب الروائيين العراقيين في بلدان الهجرة
يس الى تأكيد تواصلهم مع الوطن وحسب وانما لأقامة جسر نفسي بين هوية مفتقدة وأخرى تسعى الى التحقق عبر ذلك التواصل .