محمود فاروق
المرة الأولى عُرضت المعونة الأميركية لمصر كانت في بداية التسعينيات. كنت طفلا في أحد المناطق النائية بإمبابة (واحدة من أكثر المناطق كثافة سكانية وتطرف بمصر)، المنطقة لم يكن بها مجاري صرف صحي، والسبيل الوحيد لصرف مخلفات المنازل آنذاك كانت عن طريق عربة خاصة تأتي للمنزل كل شهر أو أثنين لصرف المخلفات.
مع بداية واحد من أيام الصيف جاءت عربات محملة بعمال يصعب عدهم. خلال أيام كانوا قد حفروا جميع شوارع الحي. وفي أحد الأسابيع جاؤوا بلافتة كبيرة وثبتوها على المخرج الرئيسي للحي عليها صورة لشخصين كل منهم يمسك يد الأخر وتصميم يشبه علم أميركا (علمت بعدها بسنوات أن هذا هو شعار المعونة الأميركية). بقي العمال طوال صيف وشتاء وبعدها ذهبوا جميعًا بعد أن عادت شوارع المنطقة لحالها. مع ذهابهم كان جميع سكان الحي مبتهجين للمشروع الجديد الذي قامت به “الحكومة” يشعرون برضا بالغ بسبب اهتمام الحكومة بهم. بقي المشروع هو المحور الرئيسي لحديث سكان الحي، وكيف أن هذه الحكومة تساعدنا لتجعل منطقتنا نظيفة وأقل مرضًا. شعر القليل من السكان بالأسى لحال صاحب العربة الخاصة التي اعتادت تفريغ مخلفات المنازل لأنهم لن يحتاجوا إليه بعد اليوم.
التفت سكان الحي كل منهم لأعماله ودراسته لا يجتمعون إلا يوم الجمعة يوم الصلاة الرئيسة للمسلمين خلال الأسبوع. يختلف الموضوع الذي يتحدث فيه الإمام كل جمعة ولكن جميع الائمة كانوا يتفقون على أمر واحد، وهو الدعاء بالموت لاميركا.
بعد ما يقرب من عشرة أعوام على مشروع المعونة الأميركية، أو كما اعتاد أن يطلق عليه سكان الحي “مشروع الحكومة” كنت في السنة الأولى للجامعة في كلية الحقوق جامعة القاهرة. كانت مجموعات الإخوان المسلمين والسلفيين لا تخطئهم العين. يعرضون على كل الطلبة المساعدة في كل خطوة ما له علاقة بالدراسة وما هو بعيد عنه. وعلى حياء كانت هناك مجموعة صغيرة من الاشتراكيين الثوريين لا يتحدثون إلا عن السياسة. بالرغم من الإختلاف الكبير بين المجموعات الثلاثة كانوا مجتمعين على أمر فكري وحيد وهو أن أصل الشر في العالم هو الولايات المتحدة وإسرائيل.
بعدها بنحو عام قرأت أول كتاب عن الإسلام والسياسة كتاب “الإسلام وأصول الحكم” للشيخ على عبد الرازق، والذي يذكر فيه الشيخ عبد الرازق بإختصار أن الشريعة لا تصلح للحكم وإنها فقط للعبادات. كتاب الشيخ عبد الرازق كان أول خطوة لخروجي من الحى (المتطور بأموال المعونة الأميركية) ومن جدار أفكاره التي تكونت إما عن طريق إمام المسجد أو عن طريق التليفزيون الحكومي. إنتهى بي الأمر أن أكون الأول في كلية الحقوق الذي عمل لنشر الأفكار الليبرالية بين الطلبة وتأسيس أول منظمة شبابية تدعو لليبرالية الكلاسيكية في مصر 2007. وذلك بعد الإنفتاح السياسي في مصر بدافع من ضغط دولي.
بالرغم من أن الحي الذي نشأت فيه هو مثال مباشر لمنطقة تطورت بأموال المعونة الأميركية على أمل أن يخلق هذا التطور منطقة أو سكان أصدقاء للولايات المتحدة، إلا أن هذا التطور لم يوفر أي بديل لأفكار كره الولايات المتحدة التي طالما إعتاد سكان الحي سماعها سواء من الإسلاميين أو من الاشتراكيين الثوريين في التلفزيون أو الجامعة. طوال ما يزيد ثلاثين عامًا حاولت الولايات المتحدة من خلال المعونة وغيرها من السبل أن تخلق نظاما حليفا ومجتمعا يشارك أو في الأقل يتقبل القيم الأميركية. خلال هذه السنوات كانت مصر –ومازالت- الدولة الثالثة المتلقية للمعونة الأميركية على مستوى العالم، كما أشار تقرير في واشنطن بوست. استثمرت الولايات المتحدة طوال هذه المدة ما يقرب من 28 مليار دولار في المساعدات الاقتصادية. ولكن النتيجة لم تتحقق.
بالرغم من هذا الاستثمار الكبير ما تزال المؤسسات المصرية تحتاج إلى إصلاح جوهري. المعونة الأميركية قامت ببناء 200 مدرسة، وقامت بتوفير 24 مليون كتاب لمكتبات المدارس، وقامت بتدريب ما يزيد عن 200.000 مدرس، ومساعد و مسؤولين إداريين، اضافة إلى توفير التكنولوجيا المطلوبة للتعليم داخل هذه المدارس. بعد كل هذه الجهود كانت النتيجة أن يأتي التعليم المصري الاخير في ترتيب جودة التعليم في العالم بأن جاء رقم 118 ضمن 118 دولة في العالم في تقرير التنافسية العالمية لعام 2013-2014.
نفذت المعونة الكثير من مشروعات البنية التحتية التي غيرت حياة المصريين بنحو لا يمكن إنكاره. قدمت المعونة ما يقارب 5.7 مليار دولار (وهو أكثر من 20% من كامل المعونة المقدمة لمصر) ما بين عام 1975 حتى 2006 ونفذت مشروعات جعلت ثلث المصريين يحصلون مياه شرب. وزادت نسبة انتاج انتاج الكهرباء في مصر عشرة أضعاف منذ بدأ دعم المعونة للطاقة عام 1975 وزاد استهلاك المصريين للطاقة بنسبة 600%. لا يعلم المصريون عن مساهمة المعونة في تطوير حياتهم بنحو ملحوظ ولا يسمعون من الحكومة المصرية أو من الاعلام الحكومي والخاص غير شيطنة الولايات المتحدة. على مسؤولي المعونة الأميركية في حال تمويل مشروعات بنية تحتية في مصر أن يطلبوا من الحكومة المصرية ذكر دور المعونة في هذه المشروعات لتغيير الصورة النمطية عن الولايات المتحدة في مصر.
صورة الولايات المتحدة لدى الغالبية العظمي للمصريين سيئة السمعة ولكنها لم تكن دومًا كذلك. في عام 1974 رحب المصريون بالرئيس نيسكون بآمال وطموحات عريضة لبدأ علاقة دافئة وصادقة مع الولايات المتحدة، تم ذلك بدعم واضح من الرئيس السابق أنور السادات، الذي أعتاد الحديث بصورة جيدة عن الولايات المتحدة وعن ضرورة بناء صداقة بين الدولتين. السادات أعتاد الحديث للمصريين على ضرورة وأهمية هذه الصداقة لمصر على عكس الرئيس السيسي الذي فقط يذكر ذلك بالانجليزية في أحاديث للصحف الأميركية ولا يذكره على الاطلاق بالعربية، فالرئيس السيسي قال في أحد لقاءاته بصحيفة وول ستريت جورنال “نحن نريد علاقة استراتيجية مع الولايات المتحدة تكون أهم من أي شيء أخر. مصر لن تدير ظهرها للولايات المتحدة حتى وإن أدرات الولايات المتحدة ظهرها لمصر.” كل المطلوب أن يذكر السيسي نفس الحديث للمصريين ليغير الصورة الشيطانية التي أعتاد الاعلام أن يستخدمها في وصف الولايات المتحدة.
جزء لا يتجزأ من تقوية العلاقة المصرية – الأميركية هو ضرورة العمل على الإصلاح الديمقراطي وحقوق الانسان وجعلها شق رئيسي من دور الوكالة الأميركية الدولة للتنمية. وعلى وجه الخصوص، تعديل قانون المنظمات غير الحكومية الصارم الذي صادق عليه السيسي مؤخرًا والذي سيعرقل جهود جميع المنظمات الإنمائية في مصر، سواء الأجنبية أو المحلية. وكان السفير مارك غرين، الذي وافق الكونغرس مؤخرًا على رئاسته للوكالة الأميركية الدولية للتنمية، والذي كان في السابق رئيس المعهد الجمهوري الدولي، وأعرب عن دعمه لتعزيز الديمقراطية ووصفها واحدة من أهداف الوكالة الأميركية للتنمية الدولية.
إضافة إلى ضرورة الوقوف ضد القانون الجديد للمنظمات غير الحكومية، يجب على السفير غرين إعادة النظر في استراتيجية الوكالة وعملها في مصر. ووفقا لتقرير بوميد لعام 2017 بشأن مقترح الميزانية، فإن مستويات المساعدات المقترحة من الإدارة في ميزانية العام المالي 2018 موجهه بأغلبية ساحقة نحو المعونة العسكرية، مع تخصيص 5% فقط للمساعدة الاقتصادية، وخصص 1% فقط لبرامج الديمقراطية والحكم. إن هذه السياسة من تهميش مساعدات الاصلاح لن تخلق مجتمعا ودودًا أو حكومة ودية في مصر بل ستكون كما كان الحي الذي نشأت فيه يستفيد من أموال المعونة ولكنه يرى الولايات المتحدة كأصل الشر في الكون.
وفي الوقت نفسه، من المرجح أن يؤدي الإنفاق المتواصل على البرامج الاقتصادية والتعليمية من دون معالجة الفساد في مصر إلى النتائج نفسها. ويجب على السفير جرين أن يتعلم من الماضي وأن يضع هدفًا واضحا لبناء علاقات مع المستفيدين المحليين من المشاريع الإنمائية بعقد اجتماعات علنية مباشرة مع المجموعات المحلية ومنظمات المجتمع المدني المحلية. يجب على الوكالة الأميركية للتنمية الدولية الاستثمار في بناء المؤسسات الحكومية وغير الحكومية لمكافحة الفساد. كما ينبغي أن تطالب الوكالة الأميركية للتنمية الدولية بأن يكون تقرير الجهاز المركزي للمحاسبات في مصر علنيًا ومتاحًا للمواطنين والنواب والصحافة، أو في الأقل الأقسام والمراجعة التي تغطي المشاريع التي تقوم بها أو تسهم فيها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية.
يجب على السفير جرين أن يطلب ضمانات من مسؤولين حكوميين مصريين بأنهم سيتكلمون عن أهمية العلاقات القوية مع الولايات المتحدة، وينبغي للسفارة الأميركية بالقاهرة أن تقف ضد التقارير الإعلامية التي تهاجم الولايات المتحدة في مصر. السفير جرين يجب أن يعلم أن المساعدات الخارجية الأميركية لمصر يمكن أن تكون عنصرا قيمًا لتحويل مصر إلى حليف حقيقي.
* منسق مشروعات بمشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط (بوميد).