النجف – الصباح الجديد:
تنشر ثقافة «الصباح الجديد» نصّ مبادرة أدباء ونخب محافظة النجف للسلم الأهلي؛ لأهميتها في الظرف الحساس الذي تمرّ به البلاد:
بقلقٍ كبير، يتابع أبناء النجف الأشرف مع سائر العراقيين، الأحداثَ التي تجرى في البلاد، منذ سقوط مدينة الموصل الحدباء بيد العصابات الإجرامية «داعش» ومن اصطف معها من المجرمين، في التاسع من حزيران من هذا العام 2014.
لذا تنادت نخبٌ نجفية، من رجال دينٍ، وأدباءَ، وأكاديميين، ومثقفين، وصحافيين، وفنانين، وممثلي مؤسسات ثقافية ومهنية ونقابات ومنظمات مجتمع مدني، وناشطين مدنيين، في العراق وخارجه، وبدعوة وتنسيق من اتحاد الأدباء والكتاب في المحافظة، إلى مدارسة هذا الوضع الخطير الذي تمرّ به البلاد، وما يُخشى عليها فيه من آثارٍ وخيمةٍ على الأمنِ والسّلمِ، وعلى وحدةِ العراق والعراقيين، وعلى مستقبل وادي الرافدين.
وطوالَ شهرٍ تقريباً من الأحداث المتسارعة، وبعد مداولات ولقاءات عديدة، قررت هذه النخب اطلاق مبادرة كبرى للسلم الأهلي في العراق، آخذةً بالحسبان تعضيد البيانات والمبادرات والدعوات التي صدرت من مؤسسات ثقافية وأفراد مجتمعين، للتحذير من مخاطر هذه الأحداث، وأخذها بعين العقل والرويّة.
وفي ما يلي قوام المبادرة:
1. في الوقت الذي نفخر فيه بوقفة شعبنا العظيم بطوائفه وقومياته كافة ضد هذه الهجمة الإرهابية، ونشيد بفتاوى المرجعيات الدينية من الأديان والطوائف كلها، إذ أعلنت الدعمَ للجيش العراقي البطل، وتعزيز الحماية لبلدنا وشعبنا… وفي الوقت الذي نُظهر اعتزازنا وشعورنا بالرفعة لوقفة أبناء المدن التي اختطفها الإرهاب، وإظهارهم عدم التعاون معه، انتساباً منهم لحضارة وادي الرافدين… فإننا نؤكد ضرورة أخذ مجلس النواب الجديد، والكتل السياسية والأحزاب، العبرةَ من هذا الحدث الجلل، والإسراع بتشكيل حكومة وحدة وطنية جديدة، وحدةً حقيقية، لا مصطنعة ومهلهلة كما عهدناها، تمثل كفاءات الشعب وخبراته، لا محاصصات مسار العملية السياسية وتجنيب الشعب شر الاحتراب والانقسام.
2. لا حدثَ بلا مقدمات. هكذا ندعو الجميع إلى الاعتراف الشجاع بما أوصل بلادَنا إلى ما نحن فيه، ولا سيما إخفاق الكتل السياسية المتنفذة، والأحزاب الفاعلة، في خلق مناخ صحّيٍّ للعملية السياسية، وتنافس شريف على خدمة الحاضر والمستقبل، بينما تقاسمت الحكومة وكثير من معارضيها مسؤولية تعقيد المشهد السياسي، وملئه بالاحتقان، والتدافع على المنافع، وتغطية المفسدين، والمواقف الانتقائية بشأن من يخرج على القانون. وفي حينَ تتحمل الحكومة إخفاقاتِها الكثيرةً، ولا سيما في ملفات المصالحة الوطنية، والأمن، ومكافحة الفساد، والخدمات، فإن كثيراً من معارضيها يتحملون مسؤولية ظهورهم أمام الملأ بثياب متتبعي الأغلاط لغاية واحدة هي تتبع الأغلاط، وكان أكثر تناقضاتنا مأساويةً أن نرى أولئك الواضعين قدماً في النهار وأخرى في السياسيين وامتيازاتهم، تأخذ على عاتقها رأب الصدوع وحماية البلاد وتصحيح الأغلاط في
الليل، من برلمانيين يجلدون في الإعلام الحكومةَ وكُتلهم ممثلةٌ فيها، ومسؤولين حكوميين يطعنون البرلمان وهم نتاج محاصصاته.. وكان مما كان – في هذا كله – عدم جدية الكتل السياسية المتنفذة، والأحزاب الفاعلة، في تصحيح مسار العملية السياسية، وعدم جديتها في تعديل الدستور ونزع فتيل الأزمات من بعض نصوصه تطبيقاً للمادة (142) منه، وعدم جديتها في تطبيق المادة (140) الخاصة بالمناطق المتنازع عليها، وعدم جديتها في إقرار الكثير من القوانين والتشريعات الحساسة والمفصلية (كقوانين: الأحزاب، والنفط والغاز، وتنظيم حرية التعبير، وتنظيم التظاهر السلمي) مع تفاقم مشكلة ملف السجناء الأبرياء… وصولاً إلى المشكلة البارزة: ذلك الفساد السياسي والمالي والإداري لسياسيين كثيرين ومسؤولين حكوميين وأعضاء برلمان، يُفترض أنهم يعملون جميعاً تحت راية العلم العراقي… وبناء على ما تقدم فإننا نطالب مجلس النواب الجديد والحكومة المقبلة والكتل السياسية كافة بأن تُظهر عاجلاً جديتها لتصحيح هذه الأغلاط وحماية بلدنا من آثارها الوخيمة.
3. «داعش» ومن اصطفّ معها من العصابات الإجرامية لا تمثل سُنّة العراق، حتى لو كانت مجاميع من أبناء هذه المناطق قد انخرطت مع المسلحين أو دعموهم أو رحبوا بهم، لظروف وأسباب مختلفة. إن اختطاف كثير من المدن الغربية والشمالية تحت وطأة هؤلاء المجرمين، ومن دعمهم من أبنائها، لا يعني أن مجتمعات تلك المدن تتحمل وزرهم، بل إن الوقائع تقول إن هذه المجتمعات من ضحاياهم، كما إن التنديد بظهور «داعش» في هذه المدن لا يعني القول بعدم وجود مطالب شعبية حقيقية لأهلها، حالها حال محافظات الوسط والجنوب، ولا يعني إغفال هذه المطالب، وإنما هو يعني أيضاً فشل عدالتنا الانتقالية ونشاطنا السياسي والمدني، وبخاصة لسياسيي تلك المدن وناشطيها المدنيين، في التعاطي مع مجتمعاتها التي ينتشر فيها من فقد وظيفته وامتيازاته بعد 2003 من دون برامج تأهيل تعيد علاقاتهم بالدولة الجديدة وتغيّر مشاعر الحنق لديهم، حتى أصبحوا مادة سريعة الاشتعال.
4. تدين النخب النجفية المواقف والتدخلات الإقليمية والدولية السلبية، المؤججة للصراعات الداخلية في بلدنا، والمهددة لاستقراره ووحدته، وتؤكد تمسكها بوحدة العراق أرضاً، وشعباً، وحاضراً ومستقبلاً، من دون تفريط بحقوق أيٍّ من مواطنيه ومكوّناته، ونعضّد دعوات العقلاء والوطنيين المخلصين من الطوائف كافة بالالتزام بالدستور وإنهاء المظاهر المسلحة الشعبية وحصر السلاح بيد الدولة.
5. مرّ شهرٌ على الأحداث، وما تزال أغلب الكتل السياسية، وأغلب السياسيين، بعيدين تماماً عن مجاراتها، ما يزالون يفكرون ويتحركون بالعقلية نفسها التي كانت قبل التاسع من حزيران، وكأن صدمة الحدث التي هزت المجتمع الدولي، وأسالت أنهاراً من الحبر عندهم والدماء عندنا، وغيرت المواقف، وأفرزت ردود أفعال كبرى، وصعَّدت إجراءات التوقع والاحتراز.. كأن هذه الصدمة لم تؤثر شيئاً في العقلية السياسية السائدة ببلادنا. وبخلاف عددٍ من السياسيين الوطنيين الأصلاء، يؤسفنا أن السياسي الشيعيّ ما يزال يفكّر داخل صندوق الشيعة، والسنيّ داخل صندوق السنة، والكردي داخل صندوق الكرد، وممثلو الأقليات يلهجون بأقلياتهم قبل اسم بلدهم، ما نزال نسير متثاقلين بعضاً إلى بعض، تدفعنا الشكوك والمحاذير قبل مصافحة الأيدي، وتوقفنا العزّة بالخطأ والتكبّر ضدّ المصارحات والمكاشفات والاعترافات والاعتذارات؛ ما نزال تهزمنا في دواخلنا أمراض الاستحواذ على المقابل حتى لو كان شريكي في هذا الوطن، والاستخفاف بمظلوميته مقابل تعظيم مظلوميتي، والرقص على جنائز أسرته حتى لو كان مقابلها جنائز من أسرتي.
6. لا حدث أيضاً بلا نتائج. هكذا ندعو الحكومة العراقية ومجلس النواب الجديدين، أن يأخذا العبرة ممّا حدث، وأن يصدرا بأسرع ما يمكن قرارات وتشريعات جديدة، شجاعة وواقعية، توجب على المؤسسات الحكومية وغير الحكومية، والأفراد ذوي الأنشطة العامة.. توجب عليها وجوباً إظهار التنوع الديني والقومي والمذهبي والفكري في المجتمع العراقي واحترامه، وإن الاعتزاز بالهوية الفرعية للفرد (دينِه، ومذهبِه، وقوميتِه، وتوجهه الفكري) لا يعني التمترس في الطائفة والدين والقومية ضدّ هوّيته الرئيسة: الوطن، أو ضدّ الآخرين؛ ولا يعني خلط الإرشاد الديني والدعوات العقائدية والفكرية بالتقليل من شأن المخالفين أو مهاجمة معتقداتهم. ندعو أيضاً أن تحمي هذه القرارات والتشريعات الجديدة وحدة نسيج المجتمع من الظهور السلبي لمواقف خلافية بشأن حوادث كبرى في تاريخنا الإسلامي والعراقي، سواء القريب منه أم البعيد، فهي تؤجج الصراعات وتعزز في الناس رغبة الانتقام من معاصريهم بسبب «أغلاط» الماضي، ولا سيما أن إظهارها لم يُجْدِ حتى الآن أيَّ طرف نفعاً في إقناع الطرف الآخر بها، يغذّيها في الإعلام متشددون، وتعتاش عليها في الظلام نصوص وممارسات خطيرة في قطاعي التربية والتعليم، حتى غدا جمهورها نفسه يستمرئ الأزمات، ويشحذ في السرّ سكاكينه ويهيّئ الأسلحة… هكذا ندعو الحكومة العراقية ومجلس النواب الجديدين، أن يقدّرا الأهمية التاريخية والإنسانية لإصدار قرارات وتشريعات من النوع الذي نتحدث عنه، وندعو أن يضاف إليها تخصيص موازنة مالية سنوية تشجّع المؤسسات والأفراد على تنظيم فعاليات تظهر التنوع العراقي وتعتز به، إسوة بالدول المتقدمة، إذ أسهمت هذه الفعاليات – وما تزال- في استقرارها والتخالط الإيجابيّ بين مكوّناتها.
7. استمراراً في النقطة السابقة: ندعو وزارة الثقافة العراقية أن تنهض بمسؤوليات نشر الألفة والسلام في مجتمعنا، وإعداد ستراتيجية معمقة بعيدة المدى تصوغ «حلولاً ثقافية» لما يحدث في العراق اليوم، يمكن أن يتم تبنيها مع الحلول الأمنية والسياسية والاقتصادية، ويمكن حتى تقديمها بصيغة تشريعات قانونية مقترحة إلى مجلس النواب؛ حلولاً نعزّز بها القيم الإيجابية في مجتمعنا، قيم السلام والتواضع والمحبة والوئام، ونكافح بها تفشّي قيم العنف وادّعاء امتلاك الحقيقة المطلقة وتآمر الأخ على أخيه، ندعو وزارة الثقافة أن تقوم بفتح نقاش حقيقي وجدي عن هذا كله في بلادنا كلها، عبر مطبوعات وأحداث ثقافية ومؤتمرات وندوات وورش تفكير مشترك، وعبر كلّ ما تراه مناسباً، ندعوها للتعاون بهذا الصدد مع منتجي الأعمال الإبداعية الحقيقيين الفاعلين (الأدباء والفنانين) ومع المفكرين والأكاديميين والناشطين المدينيين والمؤسسات ذات الأنشطة العامة في قطاعي الرياضة والشباب، والجهات ذات العلاقة في الوزارات الأخرى، وكل من ترى فيهم أهلاً للنهوض بما نسميه «الحل الثقافي لما يحدث في العراق».
8. استمراراً في الإطار الثقافي، فإن النخب النجفيّة ومن وقّع معها هذا البيان، يدينون بأقسى العبارات تعرض المجاميع الإرهابية المسلحة إلى التراث الثقافي والديني للعراق في المدن التي سيطرت عليها، ونحذّر من مخاطر ذلك على السلم الأهلي والتنوّع الثقافيّ في بلادنا، ونطالب الجهات المعنية والمنظمات الدولية للتدخل بقوة من أجل الحفاظ على هذا الإرث ومنع استهدافه سواء بالتدمير أو بالسرقة.
9. بإيجاز: نريد دولة بنّائي أمة لا دولة ممثلي طوائف وأقوام، دولة مواطنة لا دولة مكوّنات، دولة مدنية لا دولة دينية، دولةً يستقيل فيها المسؤول إذا قصّر، ويعتذر فيها إذا أخطأ، ويكون أوّل من تُظهر ثمنه الأحداث، وأوسط من يكون بين العراقيين، وآخر من يتسلّم ثمناً عن عمل. بإيجاز: نريد مسؤولاً إذا قرّبناه إلى المرآة نرى فيها وجوه العراقيين جميعاً.
10. مرة أخرى: لا حدث بلا مقدمات، وبلا نتائج. هكذا نأتي إلى المطلب الرئيس لهذه المبادرة: وندعو قبل التصريح به مجلسَ النواب الجديد، إلى مواجهة حقيقة أنّ تجربتنا في العدالة الانتقالية، التي مورست ما بعد نيسان 2003، شابها الكثير من الخلل، فتحوّلت أحياناً إلى شكلٍ من أشكال العقاب الجمعي، وفي أحيانٍ أخرى، بدتْ كأنها عقابٌ للناس على أفكارهم ومعتقداتهم، لا على أفعالهم، ومن جهة ثالثة، أسهمت صفقاتٌ سياسية في نجاة جناة من العقاب. وإذا آمنا بأن بناء السلم الأهلي يقتضي، أولاً، الاعتراف بالمصادر الداخلية لنزاع أهليّ عميق، عشناه في السنوات الماضية، وكان يصعد ويخفت مع تحوّلات السياسة… فإن التجارب والخبرات العالمية علمتنا أن أبرز المتطلبات لإنهاء مثل هذا النزاع، يتمثل في إصدار قوانينَ للعفو العام.
ولغرض أن يقرر الشعب العراقيّ حسم نزاعاته بنفسه.. فإننا نعلن المطلب الرئيس لهذه المبادرة، متمثلاً بدعوة المشرّعين العراقيين لسنّ قانون لاستفتاء الشعب على العفو العام عن مرتكبي الجرائم السياسية والطائفية والعرقية، وعمن حمل السلاح ضدّ الدولة العراقية، وترك الكلمة للشعب العراقي لكي يقرر بنفسه فتح صفحة جديدة للتعايش السلمي وبناء أمن للوطن يعتمد على روح التسامح ونسيان آلام الماضي مهما كانت عميقة ومتجذرة، وجعل كلمة «لمّ الشمل» هي العليا.
ختاماً … وفي هذا الظرف التاريخيّ الخطير… ليس لنا بدّ من أن نحذّر عدداً من رجال الدين والأكاديميين والمثقفين، سواءً كانوا المترددين منهم في اتخاذ موقف مما يجري، أو أولئك الذين انزلقوا للأسف في مهاوي الكلام الطائفي أو العنصريّ أو المناطقيّ، من أنّ النار التي تسري في أي مكان من العراق تحرق العراق كله، وواهمٌ من يرى أنه بمنأى عن أي خطر أو ضرر، مهما كانت سماكة الظل الذي يستظلّ فيه، وسيكون هو ومن ينجح باستدراجه ليكون «عدوّه» جميعاً خاسرين، ما لم تُفتح صفحة جديدة نلتف فيها حول التعايش السلميّ، التفافَ الأبناء حول أمهم وأبيهم، وأن ندين الإرهاب بكل أنواعه، ومن أي جهة كان، ولأي هدف معلن أو خفيٍّ جاء، ونُحْيي الثقة بين من لا يثقون ببعضهم.. وبناء عليه ندعو المجتمع المدني والنقابات المهنية والاتحادات والنخب العلمية والاجتماعية والمواطنين من النجف الأشرف وسائر المحافظات الحبيبة.. إلى التوقيع معنا على هذه المبادرة لتشكيل حزمة ضغط كبرى على أصحاب القرار السياسي للأخذ بما جاء فيها، ويكون على مكونات العراق كلها مسؤولية إقرار السلام في وطننا…
والسلام على العراق وأهله.. السلام على العراق وأهله.
أدباء ونخب من النجف الأشرف تموز 2014