مظاهر الجمال

في الولايات الهندية الثلاث التي زرتها قبل عامين، كنت أعجب كيف تكون بلاد المليار إنسان بهذا الجمال، وكيف تكون المساحات الخضراء المبثوثة في كل مكان بهذا الاتساع؟ وكنت أبحث عن الوفرة السكانية التي بلغت الذروة فلا أكاد أجد لها أثراً إلا في المطارات ومحطات القطار. ثم أعود بذاكرتي إلى مدننا التي لا تضم إلا نسبة ضئيلة من سكان هذه الولايات فأراها تغص بالمساكن والسيارات والمارة، وتفتقد لأبسط معالم الرفاهية والحضارة والعمران.
لقد أتاح لي عملي على مدى ثلاثة عقود أن أتنقل في بقاع كثيرة داخل العراق، وأتأمل طبيعة الحياة فيها، كانت أقل كثافة وأكثر جمالاً، وحينما عدت لها في السنوات الأخيرة وجدت أنها تغيرت تماماً، ولم تعد كما كانت من قبل، لقد ترهلت إلى درجة الاختناق.
في العاصمة ذهبت ذات يوم إلى منزل صديق لي لم ألقه منذ سنوات. لم أستطع تمييز منزله لأول وهلة. فالدور الملاصقة له لم تعد كما كنت أراها من قبل. بدت ناتئة ومتشابكة وفظة إلى ما لا مزيد فوقه. اختفت النخلات وأشجار النارنج، وتكاثرت الأبواب والسيارات ومجموعات الأطفال. وحينما وصلت إلى هدفي اكتشفت أن هذه الدور قد انقسمت على نفسها مثنى وثلاثاً. وأحياناً رباعاً أيضاً!
في بلدان الله المتقدمة وغير المتقدمة، لا أحد في الأحياء الراقية التي تقع غالباً على أطراف المدن، يستطيع أن يعبث بمظهر أو روح المنزل. أما في القلب فالناس يعيشون في أبراج وعمارات شاهقة، تاركين فضاءات واسعة يتنفسون فيها هواء الله، ويتنشقون فيها عبير الأرض. وعلى مقربة منهم تمتد الشوارع العريضة والجسور والمساحات الخضراء الجميلة.
لا أعرف أي قانون سمح باقتسام القطع السكنية المختصرة بهذا النحو المفجع، لكن من المؤكد أن تهاون البلديات ومديريات الأملاك في بلادنا جعل مثل هذا الأمر ظاهرة شائعة، أتت على كل مظاهر الجمال في مدننا هذه.
أثبتت التجارب السابقة أن الكثير من الدور السكنية القديمة تحولت إلى عمارات ومحلات تجارية ومعارض للسيارات! فإذا كان ذلك مبرراً في الماضي بقلة السكان، فلماذا تتكرر التجربة في هذا العصر أيضاً؟ ولماذا العبث بالتخطيط العمراني والبشري فيها؟
هناك سبب واحد وراء كل هذا يتجسد في الزيادة السكانية غير المنضبطة، التي تهدد بتدمير كل مظاهر الجمال في المدن خاصة. فلا ريب أن بلادنا تتجه نحو تضخم سكاني مفرط، لا تستطيع الرؤية القاصرة استيعابه، وتعجز موارد الطاقة والمياه والصرف الصحي والمدارس والوظائف والخدمات الأخرى عن الإيفاء به.
إذا كنا عاجزين عن لجم أنفسنا في موضوع الإنجاب، فلا أقل إن نلجم أنفسنا في موضوع منع اقتسام القطع السكنية الموجودة حالياً، ونذهب إلى عدم السماح بتوزيع مثيلاتها في مراكز المدن. لقد آن الأوان كي ندرك أن هذا هو عصر العروج نحو السماء، والعيش بالقرب من السحب والملائكة والنجوم!
محمد زكي ابراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة