أنمار رحمة الله
شهر مضى على عملي في الحديقة، لم يكن العمل شاقاً، كنتُ أراقب الأقفاص التي يوضع فيها الزبائن، ومساحة خضراء وبحيرة صغيرة. أهم ما في عملي أنه كان سرياً، هذا ما أوصاني به مالك الحديقة حين باشرت العمل( المحافظة على أسرار زبائننا أهم ما يميز عملنا هنا، ومن دون هذه السرية ستفشل الحديقة ولن يدخل إليها أحد). هذه النصيحة كان مالك الحديقة يلقيها في أذني، في كل مرة نغادر فيها مكان العمل . لهذا كنت كتوماً ولم أفصح عن طبيعة عملي، مع أنه كان عملاً بسيطاً كما قلتُ، فهو يقتصر على المراقبة، وتحديد وقت الدخول والخروج، وإدامة المكان وتنظيفه، وإبلاغ المالك عن أي شيء غير مرغوب به. لكنني في أثناء عملي اكتشفت أشياء عجيبة!. لقد تعرفتُ على أشخاص معروفين خارج الحديقة، كانوا يتسللون إلى هذا المكان، ويدفعون السعر المطلوب لممارسة تلك الأفعال. كنت أجلس خلف شاشة المراقبة، وأقهقه حتى يسيل ريقي إلى صدري، ولم أتردد في جلب المكسرات لكي أستمتع بالعرض كل يوم. وكأنني أشاهد مسرحية كوميدية لا تُمل. مثلاً ،الأقفاص تمتلئ برجال ونساء، يزأرون تارة، وتارة يقفزون ويصرخون ويصفقون، ثم يتمددون على أرضية كل قفص ويمرغون ظهورهم، ويحكون رؤوسهم بالأرض ثم يجلب لهم صاحب الحديقة طشوتا مملوءة بالطين والتبن، يهرولون صوب الطشوت، يقفزون فيها ويمرغون وجوههم وأجسامهم بالطين، فرحين كأنهم في عرس. لقد كانوا يمارسون كل شيء حتى التزاوج.. وبعد انتهاء طقسهم هذا، يخرجون من الأقفاص، ثم يغسلون أجسامهم في الحمامات، ويغادرون الحديقة وهم في كامل أناقتهم.. لقد عرفت بعضاً منهم، كان ضابط شرطة شرساً تعرفه المدينة كلها من ضمنهم، وزوجة العمدة، وتاجر كبير يركب سيارة مظللة، وآخر موظف كبير في إحدى الدوائر…نعم لقد تعرفت عليهم مباشرة، ولكنني لم أتعرف على الآخرين الذين كانوا أكثر هيبة و وقاراً. هذا بالطبع بعد خروجهم من الحديقة، لأنهم داخل الحديقة يبدون مضحكين جداً.. أما المساحة الخضراء التي كانت في الحديقة، فتلك كانت في الهواء الطلق، يجتمع روّادها فيها ليصنعوا دائرة كبيرة، من يدخل الدائرة يتكالب عليه الآخرون ويضربونه بالأحذية، وكان المتجمعون يسمون هذا الطقس (حفلة الأحذية) لأن من يدخل الدائرة يشبع أحذية حتى أن بعضها يعلق في أفواه الزبائن، الغريب في الأمر أن من يدخل الدائرة يظل يضحك، مع كل تلك الكمية الهائلة من الضربات الموجعة. زيادة على هذا لقد كانت حفلة الأحذية غالية جداً، الدخول إليها يكلف الكثير، لهذا لم يكن يجرؤ على المشاركة فيها سوى الأثرياء جداً، وبعض الشخصيات الذين كنت أرى وجوههم في التلفاز. الغريب أنهم في تلك اللقاءات الرصينة يبدون متزنين جداً، ولكنهم في حفلة الأحذية يبدون كالأطفال، يتصارعون على الدخول إلى الدائرة والمنافسة في تحمل الضربات. في الحقيقة لم تكن تلك الحفلة ولا الأقفاص تثيرني كما تثيرني البحيرة، طقس البحيرة من نوع خاص، البحيرة سرير مائي لأجساد شتى، يتجمهرون رجالاً ونساء ويدخلون إلى البحيرة، وهم يرتدون جلودهم فقط. لقد كان روّاد البحيرة من أكثر الزبائن ارتداء للملابس، يملؤون أرض الحديقة بملابسهم الكثيرة، لعل تلك الملابس الثقيلة التي كانوا يرتدونها تثقل كاهلهم فيريدون التخلص من ثقلها في النزول إلى البحيرة؟!. لم أفهم حقيقة، لأنني كنت أرى النساء حين يدخلن إلى الحديقة، يرمين عباءاتهن وأحجبتهن وينزلن إلى البحيرة، عاريات يضحكن ويتبادلن قذف الماء على الوجوه. أما الرجال ،فيركضون متعثرين ببناطيلهم ودشاديشهم، ثم يقفزون صوب الماء لتمتلئ البحيرة بكومة من اللحم البشري، عشرات الأذرع والسيقان والرؤوس في مشهد أتسلى به وأنا أشاهده خلف شاشة المراقبة. ثم ينتهي طقسهم المائي، يخرجون من البحيرة الصغيرة، ينشفون أجسادهم ويرتدون ملابسهم الثقيلة المحتشمة، ويخرجون من الحديقة بسرية تامة.. في النهاية وحين ينتهي دوامي اليومي، أخرج إلى الأماكن التي كان يمارس فيها الزبائن طقوسهم، أجول بين الأقفاص لكي أنظفها من بقايا الطين وأغسل الأرضية مزيلاً عنها اللزوجة والأوساخ. ثم أذهب إلى العشب الأخضر لأرتبه و أسقيه وأنظفه وأساوي أعشابه. أفرغ ماء البحيرة وأملؤها ماء نظيفاً من حنفية قريبة. أنا حريص بشدة على تنظيف المكان على أفضل وجه، لكي لا يشمئز الزبائن ويستمرون في المجيء، وهذا واحد من أسباب احترام مالك الحديقة لي، لقد كان المالك معجباً بعملي وتفانيي.. وحين أنتهي من عملي يقف ينتظرني عند باب الحديقة، ثم يضع طوقاً ذا سلسلة على رقبتي، ونعود إلى المنزل معا، أسير أمامه مسروراً وهو يخاطبني خوف أن أنسى دائماً ( أوصيك دائماً… المحافظة على أسرار زبائننا أهم ما يميز عملنا).