إجناسية العمود الومضة والقصيدة الومضة

في المجموعة الشعرية (وطن بطعم الجرح)
د. نادية هناوي سعدون

ليس جديدا أن يبتكر الشاعر المجدد مشتاق عباس معن شكلا يوافق طموحه الشعري، بعد جديده الاول الذي تمثل في قصيدة الشعر التي تبناها اذبان تسعينيات القرن الماضي مع ثلة من مجايليه من الشعراء، ثم تعضد هذا التطلع الابداعي في انتاجه القصيدة التفاعلية..ومن بعد ذلك جاء ابتكاره لجنس العمود الومضة وقد جسّده في ديوانه( وطن بطعم الجرح) الصادر عن دار الفراهيدي في طبعته الاولى عام 2013 .
ولعل الجديد في ملامح هذا الجنس انه يجمع امرين هما الاختزال والالتزام الاختزال في ابعد صوره والالتزام الايقاعي في ابهى صراماته، كما ان فيه روحين روح القصيدة العمودية وروح القصة القصير جدا وهذا الاجتماع بين الشعر بمنظومته المفروضة الطاعة بابوة جاءت من تراكم ارث شعري عتيد وبين النثر بافقيته التخييلية المستمدة من واقع معيش سيجعلهما يشكلان كيانا هجينا فيه ملامح الشعري والنثري.
فهل سيتمكن هذا الجنس الوليد من الايفاء بشرط الشعرية العتيدة وبطرياركيتها الصارمة وهو يتداخل بالسرد ليبتكر شكله الفتي (العمود الومضة) ؟
إن حجم التحدي الذي ينطوي عليه هذا التساؤل تحدده قدرة الذات على انتاج نص يلبي طموحاتها في الابتكار الفني والبزوغ المعرفي..وسيكون هذا الانتاج ايضا رهنا بالقارئ الذي عليه ان يستدل على هذا الشكل ويؤشر ابداعيته بنفسه ..كأن يميز التكثيف حين يكون متخيلا سرديا والتكثيف حين يكون نسقية شعرية وفي هيأة لها ومضة الصوت وايماءة الدلالة..
وما عملية الجمع بين التكثيفين الا ارهاص شاعري ينوي تحقيق تداخل اجناسي بين الشعر والسرد لإنتاج هيأة تكثيفية توسم بأنها شعرية سردية ولكن أ يمكن مطارحة هذا التصور حين يكون المنتج هياة تكثيفية شعرية حسب؟ وهل سيكون حينها قصيدة ومضة او العمود الومضة ؟!!..
ونبدأ بالتمثيل على النص المنتج لكي نقلّب في خلفيات صيرورة النص الابداعية ونعرف متى تكون شعريتها نثرية او نثرها شعري؟
ولاغرو أن الاعتياد على مصطلح العمود لوحده كفيل بأن يفك الالتباس ما بين ومضة هي في الأصل نص نثري أتاحت له لا مألوفيته أن يتعدى النثر إلى قصيدة النثر الومضة وبين ومضة هي في الاصل شعر لكن اختزالية النص الكتابية تجعله يتعدى الشعر الى أن يكون مجرد عمود ومضة او ايماضية وليس قصيدة.
وهذا ما نجده متجسدا بشكل بيّن في نصوص المجموعة موضع الرصد بما يدلل على وعي شعري عميق بطبيعة الجنس الذي يسعى الشاعر الى ارتياده واثبات هويته الاجناسية تحت مسمى العمود الومضة تمييزا له عن القصيدة الومضة.
ولقد بنى الشاعر نصوصه على اساس هذه الاشكالية الاجناسية فكل نص هو عبارة عن مقطعين كتابيين الاول قصيدة الومضة بوصفها قصيدة نثر قصيرة جدا يتعالى فيها البعد الدلالي السردي ويختفي فيها البعد الصوتي الايقاعي والثاني هو العمود الومضة بوصفه قصيدة عمودية مختزلة جدا يتعالى فيها البعد الصوتي جنبا الى جنب البعد الدلالي.
ومن المميزات الاسلوبية في بنائية هذين المقطعين:
ـ ان اجناسية النص المقطعي الاول تشير الى انه قصيدة نثر ومضة بينما تكون اجناسية النص المقطعي الثاني انها قصيدة العمود الومضة.
ان العنوان بدلا من ان يكون عتبة نصية في المقطع الاول المختزل يتحول الى ان يكون جزءا من جسد النص لكن كتابته بحجم خط اكبر وبلون غامق ومحصور باقواس تنصيص صغيرة هي الميزة الدالة على وظيفته العنوانية التعيينية..
ـ اختتام النص المقطعي الاول بنقطتين رأسيتين انما هو اشارة سيميائية الى ان النص المختزل هو نص سردي وان ما سيتم الولوج اليه هو النص الشعري الذي يتخذ صيغة الترتيب الشطري لبيتين او اكثر او صيغة التوزيع التفعيلي غير المنتظم وباستعمال حاشية احالة احيانا وليس دائما.
ان كتابة النص المقطعي الاول( قصيدة الومضة) في اسفل الجهة اليسرى من سطح الورقة وكتابة النص المقطعي الثاني( العمود الومضة) في السطح العلوي الايمن من الورقة مع ترك صفحة بياض فارغة بين المقطعين قد يدلل على انحياز الشاعر لاجناسية العمود الومضة وربما يؤشر على اعتبار نقدي مفاده ان النثر نص افقي يلائمه الهبوط بينما الشعر نص شاقولي يلائمه الارتفاع.
على الرغم من أن الشاعر لم يلزم نفسه بالضمير الذي يوظفه في نصوصه الا ان ضمير الانا في العمود الومضة هو الاكثر استعمالا منه في قصيدة الومضة التي تركها تنتقي ضميرها كأن يكون الانا او الانت او الهو.. واول نص من المجموعة يأتي على هذه الشاكلة:
على مقربة من عتمة
الاجابة ثمة « تساؤل خاطئ «
يتلألأ خياله الليلي الصاخب:
وياتي بعده بصفحة المقطع النصي الاتي:
كيف انمو
وغدي يذبح يومي؟!
والذي يفزع احلامي
نومي ص42ـ44
مع وضع رقم واحد فوق كلمة غدي والاحالة عليها في الهامش بنجمة * وعلى هذا المنوال يستمر بناء اغلب النصوص مع زيادة اشتمال الاحالات على نجمة اخرى وهكذا حتى تنتهي ببضع نجمات في آخر نص ص159 بعنوان( نداء بذاكرة مثقوبة ) ولعل الاحالات هي في حقيقتها تعبير عن اهتراء الذاكرة التي طالها النسيان.
وعلى هذه الشاكلة تمضي نصوص المجموعة الشعرية في توكيد قصدي لسيميائية التوزيع النصي لفضاء الورقة بغية ايصال اشارات رمزية للقارئ تفتح له مغالق النصوص وتدفعه للتدبر والتفاعل ولعلها تساعده في الكشف عن اجناسية النصوص ومخبوءاتها والافصاح عن متدارياتها الدلالية.
والمبتكر الشعري الذي نجح الشاعر مشتاق عباس في صنعه هنا هو ايجاد خيط ابداعي خفي يوثق صلة المقطع الثاني بالأول اي( قصيدة الومضة بالعمود الومضة) وهذا ما يجعل منهما كيانا نصيا واحدا تتعالى فيه وحدة البناء وتتماسك جزئياته متونا وعنوانات كما يتم معه تناسي اشكالية الاشتباك الاجناسي فيما بين القصيدتين.
وقد اشتمل النص الذي ذكرناه انفا على عنوان( تساؤل خاطئ) هو في قصيدة الومضة بمثابة تكميل حكائي لبنية النص السردية (اجابة/ تساؤل) بينما هذا العنوان في العمود الومضة هو بمثابة عتبة ولوج تختزل بنية النص الدلالية وليس تكميلا لها ..ونقرأ في نص وجوم سعيد:
اوجعتني جدتي باسنة مثل عقيم لم
يطعم سامعيه غير مرارة عتيقة بدعوى
(ان الشمعة مضحية لانها تضيء عتمة الاخرين على حساب ذوبانها)
فكلما تصرخ هذه الاسطورة في أذني ينتابني « وجوم سعيد «
ذاب عرجوني على ظل نبي
يا
مسارات وما اورقت بي؟
مرت الاوجاع ظلا ناطرا
فةق ايامي ولم تسكبي
منراك قد راني غائبا
حائرا
بين المنى والتعب ص53ـ55
إن هذه الاجناسية تجعل سردية القصيدة الومضة تتصاعد في المقطع النصي الاول كأنها سائرة باتجاه القصة القصيرة جدا بينما يكون الضخ للنبر الشعري ترصيعا وتقفية في العمود الومضة قد حقق تعادلا في كفة التوازن مع الابقاء على الخيط الخفي حاضرا ما بين القصيدتين والمتمثل في الاحساس الصوفي باذابة الذات كالشمعة في سبيل الاخرين..
وعلى المستوى الدلالي لاجناسية العمود الومضة والقصيدة الومضة نجد ان النصوص جاءت محملة برؤى فكرية لا تخلو من نقد واقعي لوطن أتخم بالمآسي وغاص ابناؤه في تراجيديا لا متناهية من الازمات والكوارث ..ولعل من تداعيات هذه الرؤى ان افرزت عنوانات سلبية تمثلت في مفردات اليباس والشحوب والخيانة والثمالة والمقصلة والحيرة والوسوسة وغيرها..
واذا كان صوت الاخر متصدرا في القصيدة الومضة.. فان صوت الانا في بث همومها ولواعجها الذاتية كان هو الطاغي في العمود الومضة ومن ذلك أن قصيدة الومضة( دورة مقلوبة ثالثة) يعلو فيها صوت الاخر المخاطب بينما يعلو في العمود الومضة صوت الانا :
اياك ان تدير وجهك عن
دورتك المقلوبة الثانية
فربما تفوتك» دورة مقلوبة ثالثة»
وحينها لن تكون نهاياتك غير
نهايات فجة لا تعرف مبتداها: ص133
اعييتني فنم
يا واهب الحلم
قد سال فيك دمي ص135
وبالاجمال فان المجموعة الشعرية(وطن بطعم الجرح) هي مشروع شعري تبناه الشاعر مشتاق عباس معن بمقصدية نقدية عميقة ورؤية فكرية فاصحة لا تفصل الشكل عن المضمون لانها تؤمن ان التداخل الاجناسي في الادب ليس مجرد منظورات مبدئية انما هي اجتراحات اجرائية وانبناءات تخييلية بغيتها تصعيد مستوى التفاعل الابداعي ما بين المبدع والقارئ وهو ما كان الشاعر قد كرّس له سابقا جهدا مهما تمثل في اشتغاله الابداعي المتميز على القصيدة التفاعلية الرقمية..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة