د. عبد العظيم السلطاني
بين يدي مجموعة شعرية صغيرة بعنوان ((أنا ثانية))، للشاعر باسم فرات. وهو عراقي في جذره ومنبته واسمه، لكنه في واقع تجربته الحياتية مُوزّع على أصقاع الأرض في رحلة سندبادية، منذ حوالي ربع قرن. وفي هذه المجموعة الشعرية منح قلمه فرصة البوح بصدق، لتكون السمة الأكبر لهذه المجموعة أنّها سيرة ذاتية شعرية. وهي في مضمونها وطريقة صياغتها تدفع المتلقي إلى تصوّر أنّها تعبير عن حياة واقعية للذات. فالشاعر في سيرته هذه يترك آثاره على الأمكنة التي احتك بها، مثلما تترك الأمكنة آثارها على جسده وروحه. فحين دوّن سيرته شعرا حضرت الأماكن متنوعة، في جغرافيتها، ومتنوعة في درجة ألفتها للمتلقي ومعرفته بها. مثلما هي متنوعة في حضورها التاريخي. بعضها قديم موغل في قدمه، وبعضها معاصر معاش، لكنه مضمّخ بالماضي أو مسكون بالحنين إليه. حتى ليخيّل للقارئ أن هذه السيرة الصغيرة بعدد أوراقها مركز استقطب عددا من مراكز سير فرعية متنوعة وعميقة. فثمّة عمقٌ في الجغرافية، يمتد من كربلاء إلى الأكوادور في جنوب القارة الأمريكية، ومن نيوزلندا إلى أقصى جنوب آسيا حيث اليابان… وثمّة عمق في التاريخ، يمتد من سومر وبابل ليحتضن حضارات إنسانية لاحقة. وكلّ بقعة جغرافية يجري الحديث عنها يحضر تاريخها أيضا. فتاريخ سيرة الشاعر كانت وعاءً ضخما صُبّت فيه سير الأماكن وما اكتنزت من تاريخ شعوبها ومدنها. لذا فهذه المجموعة الشعرية في جوهرها سيرة غنيّة بمضمونها الإنساني، مثلما هي غنيّة بمضمونها الشعري.
يسرد الشاعر سيرته سردا شعريا، وفي أول قصائد المجموعة يذكر اسمه صراحة، في مواجهة وجودية مخاطبا الله: ((أنا باسم فرات …يا الله …أتعرفني؟!)) (ص8)). وللقارئ أن يتصوّر أن المجموعة برمتها تأتي لتعرّف الله به، ولتكون مجرى لسيل الآلام التي تسربلت بها الروح وتركت بعض أوشامها على الجسد.
هنالك خيوط من الواقعية في المجموعة، يستعين بها الشاعر لسرد السيرة. وهذه الخيوط تعمل كمثبّـتات، لتأخذ بيد النصوص نحو مسالك واقعية مُقنِعة للتلقيّ. منها تواريخ تُذكر مقترنة بحوادث معيّنة، ومنها أسماء لأماكن ومدن، ومنها أسماء لشخصيات…الخ. فتحضر في المجموعة تواريخ صريحة: تاريخ الميلاد 1/3/1967، وفاة أبيه: ((1/3/1967 سرقتُ من أبي الخلافة)) (ص9)، و ((في ظهيرة الثاني والعشرين من تموز 1996 احتضن الطف هيروشيما)) (ص19)، أي صار لاجئا غادر الطف/كربلاء مدينته المنكوبة بالحزن التاريخي إلى هيروشيما اليابانية المنكوبة بحزن القنبلة النووية. لأنه: ((نعم أنا لاجئٌ توعكتُ حروبا فاسترحت بظلال المنافي)) (ص18). ويتعاقب حضور التواريخ في المجموعة، ليكون تثبيتا لواقعية الشعر، وأهدابا يتعلق بها لربط المخيلة بالواقع ولإقناع المتلقي.
وسيرته هذه تتضمن سيرة لواقع مجتمع يرد الحسنة بسيئة: ((وآويت أحزانهم فرموني بوشاياتهم)) (ص20)، وحوّلوا حياته، لتكون ((مستنقعاً آهلا بالألم)) (ص21). ومثلما تضمّنت السيرة ما جرى، فقد تضمّنت أحلاما لعلها تكون: ((تحلم أن تستيقظ حيث لا حروب)) (ص22). وفي المجموعة أمشاج سيرة تاريخ وطن، يكون الشاعر بعضه. فتضمّنت سيرة الشاعر بذلك جغرافية وطن بدجلته وفراته، وتاريخ أرضه وحزنها العتيد، وتاريخ من عاشوا فيها من أجداد، بنوا منها وفيها ولها. فسيرة طينها جزء من سيرة الشاعر. وحزنه بعض حزن ((الأمّهات الثكالى تلَفّعْنَ بتراتيل النواح السومري)) (ص24). لذا يتلمّس القارئ سيرة لحزن واقعي تاريخي متسرّب ليكون بعض سيرة الشاعر.
فسيرته تتشظى، فبعضها منبعه التاريخ، وأكثرها مصدره الحاضر، وبعضها من الحلم الآتي، وهل الحلم سوى هروب من سطوة الحاضر؟!. وبعض سيرته ممتد إلى سيرة أمّه، وبعض سيرته ليس سوى سيرة أبيه، لأنّه ليس سوى دم أبيه المسفوح المنثور على الأماكن المتعددة منذ ثلاثين حولا: ((أبي دماؤك التي سالت على الجدران، على السطوح، المنائر، النواقيس، في الغابات، في البحار)) (ص29).
وللمدن حضور مهم، ومن خلالها تجسّدت سيرة التاريخ العام، والشاعر جزء من سيرة ذلك التاريخ وخلاصته. كبغداد، مثلا. فهي في سيرتها السياسية التي دونتها مجموعة ((أنا ثانية))، كانت للمنصور ولهولاكو ولسليمان القانوني وللجنرال الانكليزي مود، إبّان الاحتلال البريطاني للعراق… وفي الوقت عينه لبغداد سيرة ثقافية، فهي لابي نواس وللمتصوفة وللمعتزلة وللشيعة وللخوارج… هي لكل هذا، بسيرتها الثرية المتسربلة بالألم والإشراق.
وأسماء المدن والبقاع مبثوثة بكثرة في المجموعة: جبل ترَناكي، ويلنغتن عاصمة نويزلندا الوطن البديل للشاعر، طائر الكيوي رمز نيوزلندا الوطني، وشلالاتها بوين فولس، وقبائل الماوري فيها…الخ. وحين تكثر الأسماء غير المألوفة للقارئ العربي يضطر الشاعر إلى إدراج هوامش تعريفية بتلك الأسماء في نهاية المجموعة.
تشرح أسماء الأماكن الكثيرة – المألوفة منها والغريبة – طبيعة سيرة الشاعر وتجربته، الموزّعة على بقاع الأرض. وهي في تنوّعها وانفصال الكثير منها عن واقع المتلقي العراقي أو العربي؛ إنّما تشرح طبيعة السيرة الغريبة للشاعر وانفصالها عن الواقع الطبيعي المعتاد، الذي يميّز تجربة الإنسان عن تجربة السندباد في رحلته الدائمة.
ينتهي السرد الشعري للسيرة بكل تشظياته المتناثرة عبر التاريخ والجغرافيا والواقع والحلم…لكن منطق سرد السيرة لا ينتهي، إذ يُلحق الشاعر بمجموعته سردا سيريّا نثريا، بحوالي أربع صفحات. هو الآخر مصاغ صياغة أدبية، للمجاز فيه حظ وافر. فهي سيرة واقعية من حيث التواريخ والإشارات إلى الحوادث، ولكنها أيضا سمحت للنَفَس الأدبي أن يتمدّد فيها، من حيث اللغة وطريقة الصياغة. فهي مصاغة على هيئة احتجاجات على أفعال أو مواقف. فتاريخ ولادته عام 1967 ليس سوى اطلاق احتجاج على وجود لم يُستشّر فيه، إنّما كان قرارا لأبيه وأمّه. وعمل خبازا عام 1974 احتجاجا على طفولة لم تُولد. وعام 1986 أصدر ديوانا بخط اليد وبنسخة واحدة احتجاجا على الأدب التعبوي وأبواق الحرب. وعام 1993 غادر العراق احتجاجا على اعتقال رفات أسلافه. واحتجاجا على تمكّن العزوبية منه، ارتكب أجمل حماقاته وهو الزواج… وهكذا تُسجَّل حوادث حياته أو قل تُسجّل احتجاجاته على الحوادث. مثلما تضمّنت تلك السيرة احتجاجات أطلقها آخرون، لكنها تتعلق به، أو أثّرت فيه. فأبوه أطلق احتجاجه حين مات عام 1969، واحتجاجا على اغتيال حياتها الزوجية وهي في سن مبكرة رحلت أمّه إلى بيت والديها عام 1970. وعام 1999 نشرت دار نشر مجموعته الشعرية احتجاجا على صمته…الخ. ليجد القارئ سيرة نثرية واقعية ولكنها أيضا أدبية، لتكون متنا سيريا يعضّد السيرة الشعرية.
وخلاصة الأمر يجد قارئ مجموعة ((أنا ثانية)) أدبا على نحو طريف آسر وأثيري وعميق. مركزه سرد لسيرة ذاتية وما صُبّ فيها من حوادث واقعية أو متخيَّلة، فردية أو جماعية. فكانت تلك السيرة خلاصة، وواديا صُبّت فيه سير الأماكن والناس ورحلتهم عبر التاريخ، بخيرها وشرّها. وهي وإن كان الشرّ والألم فيها ليس قليلا، لكن فسحة الخير فيها تبقى قائمة، من خلال هذه الفرصة الحياتية المتاحة للاستكشاف والتجريب والمقارنة بين الأماكن والناس، وتحويل كلّ هذا إلى نص يمشي على قدمين راسختين إبداعا وطرافة.