القصّة القصيرة إلى أين؟
علي لفته سعيد
منذ أن ان وجدت الكتابة كان السرد والقصّ والحكي معادلات اللغة التي تتحوّل من كونها منطوقًا لسانيًا الى اللغة التي تعطي رسم سيميائياتها وظاهرياتها التي تمنح كل العناصر الأخرى من البروز سواء ما كان تفكيكيًا او بنيويًا أو غيرها من المصطلحات التي تأخذ من الأدب طريقًا لولوج الجنس النقدي بوصفه أب المصطلحات التي تتبع النصّ أو التي تنجبها النصوص سواء منها السردي او الشعرية.
وما بين الكتابة كفعلٍ مخياليٍّ وبين التدوين كفعلٍ ديناميكيٍ يعد ردّة فعلٍ طبيعيةٍ لحالة إنتاج النصّ من الناحية النقدية فإن القصّ كفعلٍ سرديٍّ يبدو الأكثر مقدرةٍ على تبيان لعبة الموهبة ومحبتها واتّقانها وديمومتها لتكون فاعلةً في المخيلة القرائية التي تحتاج هي الأخرى الى مقدرةٍ لإنتاج ردّة فعلٍ لفعل قراءة القصّة التي تحتاج الى عوامل عديدة من عوامل نجاح ارتباطها بمفهوم السرد المرافق لعملية التدوين النثري، ومنها الرواية والحكاية والخاطرة والذاكرة والمذكرات وغيرها.. ولكن هنا يبدو القصة وكأنها المحطة العالية لرؤية الأشياء أو هي المنطقة الأعلى في سلسلة جبال السرد لأنها لا تعطي روحها بسهولةٍ ولا يمكن إدراك مفعولها دون وجود مخيلةٍ ليس لدى المنتج القاص بل المتلقّي لأنها أمام عملٍ مخياليٍّ كامل القيافة وإن أخذ أدواته الفعالة ومنها الحكاية أو الثيمة من الواقع. لأن القصة هي نقطة الاختزال الكبيرة في واجهة الحياة.
إن القصة القصيرة كمفهومٍ دلاليٍّ يحتوي جميع أجناس القصّ من قصةٍ طويلةٍ أو قصةٍ قصيرةٍ جدا أو الومضة، فأنها تفرعّت من شجرة القصة القصيرة فكانت هي الوارفة والمهيمنة والمتعلّقة والراعية والساقية لكل الأجناس القصصية الأخرى، وهي منذ أو ولدت من خلال الحكاية الاسطورية أو حتى الملاحم التي فيها فعل القصّ داخل النصّ الأسطوري والتي كانت هي المجال الأرحب لكي تنمو شجرة القصة، وكما ذكر البعض إن احيقال هو أول من كتب القصة القصيرة جدا في الحضارة السومرية وسواء صحّت هذه المقولة أو لم تصح كونها فعلاً مترجمًا من لغةٍ مكتوبةٍ على ألواحٍ طيبنيةٍ، فما يراد قوله إن مفهوم القصة يعد قديمًا جدا وقد تكون حتى الأن الجزء المحيّر في الذهنية الثقافية لأنها لم تكن وليدة الحاجة الى صاعة الحياة والجمال كما الشعر بل ربما هي وليدة الحاجة لإيصال الفعل الحياتي الى الآخر بطريقةٍ لا تبدو منهجيةً أو طبيعيةً على الأقل، وتخلصًا من الروتين ثم ارتباط فعل القصّ مع الفعل الديني في تدوينه كسردٍ سماويٍّ له أسس تختلف عن أسس السرد الاجتماعي بين البشر، لكي يضمن أولًا قداسته ويضمن فرادته وعدم الإتيان بمثله من قبل البشر ليكون فعل القصّ هو فعل السماء. ومن هنا فإن القصة حتى الآن تعد مثار جدلٍ مهيمنٍ على تثبيت حقيقة القصة وكيف ولماذا والى أين.. وقبلها متى ليكون الناتج أن القصة القصيرة هي أمّ التدوين الأدبي لأنها عملية إحاطةٍ بكلّ الأشياء المحيطة وهي التي تُعطي انسيابية اللغة بين الخيال والحقيقة وبين الخيال والواقع وهي أي القصة أقل من القصّ الديني السماوي وأعلى من السرد أو الحكي اللساني الذي ينتجه البشر بطبيعة التواجد على الأرض.
وقبل الخوض في مصير القصة أمام تسيّد الفنون الأخرى يكون السؤال أولًا.. هل هناك قصة عربية؟ لأن الكثيرين يعتقدون إن القصة جنسٌ وافدٌ كما قيل عن الرواية، وإنها جنس تأثيرٍ بعد أثرٍ لآخرين، وإنها ردّة فعلٍ لفعلٍ ثقافيٍّ له أثر حضارة الآخرين خارج النطاق العربي؟ وما بين من يؤيّد هذه الأسئلة وبين من يعارضها ويأتون بالنصّ القرآني وقصص ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة فضلًا عن مقامات الحريري والهمذاني، ولكن هناك من يقول كما أسلفنا إن الأسطورة بحدّ ذاتها هي جنسٌ ينتمي الى القصّ، لأن فيها أحداثًا تريد إثبات واقعيتها، وإن فيها عددًا كبيرًا من القصص كما هي في قصص ألف ليلة وليلة التي لا تعدّ روايةً، وهو أمرٌ ينطبق على الأسطورة ومنها جلجامش ويمكن من خلالها معرفة شخوصها وأزمانها وصراعها وتأويلاتها وقصدياتها وأماكن تحرّكها. فهي إذن أقرب الى القصص على اعتبارها شعرًا منثورًا.. وإذا ما غادرنا هذه المحطة العميقة الموغلة بالتاريخ وندخل في عموم البحث عن مصادر القصة نجد إن الجزيرة العربية كانت مليئةً بالحكايات، لكن الذي وصل إلينا هو قصائد المعلّقات لأن الذائقة التي سادت هي ذائقة الشعر كما هو حاصل، حيث تحوّلت الذائقة أو التلقّي الى السرد ومنها الرواية مع تراجع تلقّي الشعر بشغفٍ سابق. وهو أمرٌ يمكن إدراكه على إن القصة هي المحمول الأول الذي عرفته البشرية.
وإذا ما أدرنا العودة الى الجذور الأولى، فإن عملية خلق آدم والصراع في الجنة وخروجه منها والحوار الذي دار بين آدم وحواء والشيطان ثم الحوار بين الله والشيطان هو حوارٌ قصصيٌّ حتى نصل الى المقامات التي كانت بحقّ نوعًا قصصيًا كاملًا من الناحية اللغوية ولم تكن مترجمةً كما هي الأسطورة أو ألف ليلةٍ وليلة أو كليلة ودمنة من لغاتٍ غائرة في عمق التاريخ.. وما قيل من رأي على أن العرب ليس لديهم فنٌ قصصيٌّ هو في الحقيقة رأي يخالف الحقيقة ومجانب للواقع إذا ما كان الجواب قد ذكرناه واعتبرنا الحوار جزءٌ مهمٌ وأساسيٌ من أسس القصة. ودفعا لتلك التهمة من أن العرب بلا مخيّلةٍ لأنهم يسكنون الصحراء وهو قولٌ تبناه (رينان ) وهو في الواقع قد حصر العرب فقط في الجزيرة العربية رغم إن القرآن نزل هنا وفيه من القصص ما يمكن أن يعين المخيّلة على إثبات حضورها.. وهو رأي لم يتبناه (بارون كارادوفو) والمستشرق الإنجليزي (جيب) وهما يقرّان بالتأثير الكبير لفن القص العربي في تطوّر القصة القصيرة في الغرب وهو ما يعني القصة وفنها كانت غائرةً في العمق العربي قبل انتقالها الى الغرب، لكن الغرب استفاد من هذا الفن الوافد الجديد وطوّروه كما هي طبيعتهم وتركيبتهم الذهنية والعقلية التي تحاول الاستفادة من كلّ شيءٍ ليطوّر مجتمعاتهم ويساهم في بناء حضارتهم على العكس من واقعنا الذي يبقى أسير ماضيه ويتغنّى به ولا يريد تطويره بحجة أنه ماضٍ لا يجوز المساس بثوابته فيضيع التاريخ كلّه بخسارة الماضي والاستفادة منه.
وإذا ما كانت هذه هي جذور القصة فإن الواقع الذي عاشه العرب والعراق بشكلٍ خاص في القرن العشرين وبعد الانفتاح على الغرب بسبب الاحتلالات التي وقعت على المنطقة العربية وتشكلّها وتنوّعها، جعل من جذور القصة تلك تبدو وكأنها غائبةً وغير صحيحةٍ كما عد شوقي ضيف القصة القصيرة كجنسٍ أدبيٍّ لم تظهر إلّا بعد اتصال العرب بالثقافة الغربية على الرغم من اعترافه بأن فنّ القصة ليس جديداً على العرب وهو هنا ليس متعارضًا بل يعد الفن القصصي الموجود الآن ليس له جذرٌ عربي بل هو التأثر بالغرب وما يؤكد قولنا ما قاله الدكتور محمود قيسومة حينما زعم إن العرب لم ينافسهم أحد فيما صاغت من قوالب للتعبير عن القص والإشعار حينما يبدأ الحديث أو القص يحكى أن … وزعموا أن…. وكان ياما كان.. وهي بحسب قول قيسومة الكلام الذي يمهّده القصّاص العربي قبل بدء الحديث.
إن القرن العشرين يعد الانطلاقة الحقيقية للفن القصصي في الوطن العربي وفي العراق خصوصًا، ولا نريد هنا سرد من كتب أوّل قصةٍ حقيقةٍ وتاريخ نشرها، لان الكثير من الحقائق قد تتغيّر لدى الباحثين لكننا يمكن عدّ هذه الفترة الزمنية هي الانتقالة الحقيقة لهذا الجنس الأدبي الذي كان واحدًا من علامات التطوّر الثقافي والأدبي يوم لم تكن الرواية متسيّدة ويوم كان الشعر ديوان العرب.. حتى بات الفن القصصي واحدًا من علامات تطوّر أيّ مجتمعٍ عربي سواء منه في مشرقه أو مغربه لأنه يحمل دلالات الحكي ودلالات السرد ومدلول المخيلة ومدلول الإيقاع الداخلي لإثبات الرؤية المجتمعية. وبغض النظر عن كون القصة بدأت اجتماعيًا كما بدأت الرواية لأن الواقع العربي في زمن الاحتلال العثماني كان قاسيًا ثقافيًا في تراجعه ، لكن الوثبة القصصية التي حصلت في القرن العشرين تعد واحدةً من الحلقات المهمة التي تربط الجذر بما وصلنا إليه الآن من فنّ القصة وتلك الحلقات كانت تخوض غمار تواجدها، ولهذا قيل من قبل بعض الباحثين وهم يرون تلك التجارب الفقيرة ،من إن القصة هو فنٌ أو جنسٌ أدبيٌّ وافدٌ وهو يعدّ شعورًا بالنقص أو جلدًا للذات كردّة فعلٍ من واقع سياسي ظلّ مأزوما لحد الآن، ولحد الأن نحن نصفع واقعنا ونحيل كلّ شيءٍ فيه الى ما هو خارج المصطلح الخرائطي للمكان العربي.
إن تلك الفترة أعطت للقصة ديمومة روحها وتواجدها ونموها، حتى بدأت عمليات التجريب تأخذ الطابع الجمالي والفهيمي لفن القصة لنصل الى الحداثة في الوقت الراهن خاصة وإن كتّاب القصة العرب في أوائل القرن العشرين حتى منتصفه هم أصحاب الريادة في عودة الروح الى الفن القصصي، وما تلاها من منتصف الخمسينيات الى الآن هم أصحاب الريادة في التجريب ومن ثم الحداثة وما بعد الحداثة ولهذا أسبابٌ عديدةٌ كما يقول طراد الكبيسي الذي يعد الحداثة هي عملية خرق العادي اليومي من مألوف الأشكال والقيم واللغة وما يعني إن التطور والإبداع لابد أن تشمل التغيرات التي تحصل عليها عملية التغيير. وأمام هذه التحوّلات التي انتابت كل الأجناس الأدبية سواء في الشعر أو السرد وحتى كتابة المذكّرات المرتبطة بالتحوّلات السياسية التي جرت في الوطن العربي، التي صاحبت عمليات تحرير البلدان وإعلان الاستقلال لهذه الدولة أو تلك، وهو ما ينعكس إيجابًا على مثقّفي ومنتجي الأدب لهذه البلد أو ذاك، وكما يربط ذلك الدكتور صبري حافظ التحوّلات الأساسية في البنية دون مرافقة أو وجود تحوّل في بنية الخطاب القصصي وهو أمرٌ ينعكس على ما قالته الدكتورة نبيلة ابراهيم مفاده وجود الرغبة الملحّة في التغيير يقف وراءها دوافع ملحّة وجوهرية تنبع من متغيّرات الحياة التي يعيشها الإنسان في البلد المتغيّر.
أمام هذه التحولات في الفن القصصي وما رافقها من عمليات تجريبٍ ومن ثم تجارب الحداثة التي لا تتوقف، وهو أمرٌ أعطى للفن القصصي أمكانية إعطاء أمره ليكون فنًّا صعبًا من جهةٍ وفنًّا غايةً في الجمال من جهةٍ أخرى، إذا ما أحسن القاص من اختيار أدواته لأن الحداثة تدخّلت ليس على مستوى التسطير القصصي وفحواها التدريسي من وجود ثيمة ومقدمة وعقدة ونهاية، بل إن الأمر تعدّاها كما تعدى خصائص الفنون الأخرى أو الأجناس الأدبية الأخرى بعد أن أصبحت عملية تداخل الأجناس ضرورةً انتاجيةً، لفهم التحوّلات التي طرأت على الوعي والثقافة والإنتاج والانفتاح والفكر في المساحة العربية، وهو الأمر الذي أدّى الى حصول حالتين في هذا الفن تحديدًا وهما أقرب الى حالة الشعر بعد تحّوله الى النصوص النثرية. وهاتان الحالتان أو النتيجتان اللتان يمكن عدّهما إجابةً على سؤال مفترض مفاده: الى أين يمكن أن تسير القصة القصيرة؟ ونقول إن أولى الحالتين هو صعوبة كتابة قصة لها موازين فكرية محدّدة، بمعنى إن التجريب أضحى عاملًا مهمًّا من عوامل تفعيل المخيلة لدى المتلقّي ومغادرة الخيال لدى المنتج الذي صار إنتاجه على محك أصالة التلقّي الذي نحتاج الى قدرةٍ كبيرةٍ لفهم الواقع الذي اختزلته القصة.. أما الحالة الثانية وهي الحالة السلبية فإن عملية تغريب القصة أضرّت بالمتلقّي، لأنه يشعر بصعوبة الامساك بنتائج القصة وفحواها والوصول الى لحظة الإمساك بالتأويل الذي يريده القاص ومشاركته فعل القص.