ناجح المعموري
الفن الشعبي الذي يوميء الى فنون المرحلة البدائية من حيث مساحة الموضوع والاختزال وقلة الإيوان ، لذا اعتقد بان قراءة المنجزات الشعبية في مجال الفنون اعد كثيراً من قراءة الفن الحديث أو التجارب الجديدة ، لان الثانية توميء بوضوح لمراحل سابقة من تجربة الفنان وانجازات غيره ، أما الفن الشعبي ، فانه يشير الى ذاكرة قديمة للغاية ، تمتد عميقاً وبعيداً في اللاوعي الجمعي كي تبقى حية ، ظاهرة ، يقظة باستمرار ، وبسبب يقظتها الفاعلة تتمظهر متبدية باستمرار في انجازات فنية معاصرة ، وحديثة ، حتى أن بعض التجارب التشكيلية العراقية ـ على سبيل المثال ـ المعنية بالذاكرة القديمة وتوظيفها عبر شبكت رمزية وعلامات قديمة يتعامل معها البعد بوصفها انجازات جديدة / مغايرة / وجدية . لذا لا يمكن باشر عزل بين التحققات الفنية الحديثة وبين الفنون البكرية التي ما زالت حتى هذه اللحظة حاضرة بقوة ، ومثيرة للاهتمام . تلك التجربة الإنسانية التي ما زالت شاهدة مثيرة للعناية بما حققه الإنسان مثل الكتاب .
لذا لا يمكن للفنان المعاصر إعلان قطعية مع الفن البكري لان ذلك يثير أشكال حول وعيه ومعرفته ، فالحاضر ماثل في أولى الأعمال التي ما زالت حتى هذه اللحظة محفوظة في صخور الجبال وبعض الكهوف ولعل كهف تاميرا ابرز الشواهد على ذلك وما احتفظت به الصحراء الليبية من نماذج اختصرت تماماً حصراً أو عدد من العصور عاشها الإنسان. أن منطق الإنسان الحديث المتأثر بهذه الرسوم التي أبدعها إنسان تطاول جهود الفنان العصري ، وكل ما في رأسه من فلسفات وعلوم ليعتمد على حد بعيد على ترعته الإنسانية نحو « التبسط: فالإنسان ، كائن حر ، يعرف كيف يؤدي عمله بطريقة يسيرة ويتغافل كلياً عن كل ما من شأن تعقيد منجزه الفني، كما قال الفنان شاكر حسن آل سعيد.
ما زالت حتى هذه اللحظة الصور الشعبية ، وكذلك اللوحات المتداولة على نطاق واسع حاضرة ، مثيرة لاهتمام الجماعات، لأنها قريته منها ومعبرة عنها ، وكاشفة من أحلامها ، وتطلعاتها ، ودائما ما تكون مفعمة بالقوة والخيال والجمال ، وهذه كلها نسبية ، لان وعي الكائن هو الذي يحدد تلك الصفات أو المكونات.
الداخلية والبنائية للعمل ، لكن الإنسان قادر على الدنو من الجمال والتعلق به ، والتعبير عنه بما هو متوفر لديه من قدرات ثقافية وإمكانات . وما أريد التأكيد هو أن المتحقق الفني الآن ليس نتاجاً للان ، بل هو يمتد عميقاً في الذاكرة الإنسانية وكما قال الأستاذ شاكر حسن آل سعيد في « دراسات تأملية « أن الحضارة الراهنة هي حضارة إنسانية عريقة ـ تتجلى أهمية الفن الشعبي في كونه منهلاً من مناهل الأسلوب العصري ، وذلك لان موقف الفنان الشعبي من التراث المتطور هو موقف فطري حازم ، يتجاهل كل تاريخ التطور الثقافي من اجل أن يفوز بصدق التعبير الإنساني ، مما قد يؤول له الفنان المثقف من ابتعاد عن القضايا الروحية في الفن بتأكيد مشاكل التقنية تتعارض ورؤيا الفنان الشعبي وبساطته في عرض أفكاره ، وفي بناء حياته التي هي مادته الأولى للرسم / دار الجمل / كولونيا / 1997 / ص 12 .
بودي الإشارة لواحد من أهم العناصر التكوينية في الأشكال الرمزية وهي السهولة بالتعامل مع الموضوع ـ هكذا يبدو ـ والسبب ، كما اعتقد الحرية التي يتمتع بها الفنان الشعبي الذي يعيش وكأنه فضاء جماعته وذلك لأنه بعيد عن الايدولوجيا المباشرة / والمهيمنة . وما يقوم به هو محاولة في بعض الأحيان ـ لاستعادة ما علق بذاكرته من صور ومعاينات وعدم الاكتفاء بها فقط ، بل يمنحها من روحه الجديدة ، ويأخذ منها الفائض لذا يمكن ملاحظة بعض الرسوم الشعبية المتكررة ، سنجد بأن الفنان نفسه لم يلتزم بالتكوينات المنقولة في عمل أخر ، لا يختلف عن الرسم الذي قبله والسبب في حصول مثل هذه الخروقات ، هو طبيعته الفطرية / أو البسيطة التي لا تتعامل مع العمل الفني بدقائقه وتفاصيله ، لان الفنان يغادر تماثل التفاصيل الدقيقة جداً ، ويمنح بديلاً لها ، حتى لا يكون عمله محكوماً بالتطابق الكلي ، بل يذهب في بعض الأحيان نحو الزخرفة ويغادر الرسم كي يبدأ من حيث هو لا يدري بالعناية بالدين . ومثل هذه الأعمال الزخرفية البسيطة هي ما يعبر عن موقف هذا الفنان الشعبي بيسر وسهولة .
ينطوي الفن الشعبي على مادة غزيرة للمعني بالعتبات وتمثيلاتها المنقولة لنا والمحفوظة ، بوصفها جزءً من الذاكرة اليقظة ، وتتنوع غزارة تلك المادة ، ولا تكتفي بالموضوع أو الوظيفة ، التي دائماً ما تكون دينية . وتطغي في تلك التجارب رمزيات شائعة ، معروفة لدى الجماعات في حاضرها ، أو هي جزء من ذاكرتهم الموروثة . وأحيانا ، تتحرك تلك الرموز والعلامات في رسوم كثيرة ، تنتشر على مساحة واسعة من المدن العراقية وقد أخذت معها عناصر رمزية متداولة في مكان أخر وتمنحه علامة خاصة بفضاء ما ويبرز هذا أكثر وضوحاً في فن النسيج اليدوي أو السجاد ، وهذه هي التي تمثل بشكل دقيق الذاكرة الموروثة والمنقولة بالتواتر عن الأجداد ، والفنان / أو الفنانة الشعبية لا تعرف ما تعنيه التفاصيل أو ما تشير إليه ، وتؤكد أنها أخذت هذه المهنة عن والدتها ، أو جدتها ، وكثيراً ما تعاطت المرأة في العراق هذا الفن ، لأنه يكاد يكون من الفنون الأسرية ، يشترك فيها أفراد العائلة ، وكل من في هذه الفنون له خصائصه ، فالنسيج في المدحتية / بابل مختلف عن النسيج في الحي / واسط .
هذا الفن وريث لرموز سرية ودينية ، دائماً ما تحصل عليها تطويرات ، أو إضافات ، تشوش على ما هو مركزي في التجربة المنقولة لكني اعتقد بأن فن النسيج الشعبي والسجاد ورسوم النجارين هي التمثيل الحقيقي الأكثر انتشارا في الريف والمدن العراقية ، واتسع الاهتمام به من الأهالي / والجماعات المدينية ، وابتدأت تقنية وتوظفه في أكساء الأرائك والوسائد شتاء ، نظراً لما تتمتع به من ملامح جمالية . واستطيع التأكيد على أن فن النسيج يتمتع بمكانته وجمالية مهيمنة ميزته الجغرافيات الواسعة وخصوصاً البلدان الإسلامية ، حيث صار منذ زمن بعيد لكل دولة ، أو مدينة فنها النسيجي الخاص ، المميز لها عن غيرها من المدن والبلدان الأخرى .
وأكثر ما يميز الفنون الشعبية هو المشتركات لها ، لكنها ليست مشتركات كلية ، بل هي قواسم جوهرية ، تعتبر أكثر شيوعاً وتكرراً ، ومنها الرموز الموروثة عن الماضي البعيد ، والممتد في أحيان كثيرة للعتبات الحضارة وهذا ما لاحظناه بالإرث السومري الموظف ضمن جماليات الفنان الشعبي ليجعل من عمله مغايراً ومختلفاً ، ومن تلك الرموز الأشكال الهندسية غير قصدية التوظيف ، لكنها تنطوي على دلالات جمالية واضحة ومعروفة . وهذه الملاحظة قال بها الأستاذ سعد خادم في دراسة رائدة عن الفنون الشعبية في النوبة ، حيث ركز على أن العلاقة بين فنون النوبة المتنوعة والفن الفرعوني تنطوي على قيمة جوهرية ، ليست جمالية ، بل ثقافية ودينية وهي أن الإنسان يعود للماضي للاستعانة به من اجل مقارنة الموت والفناء والانقراض . من هنا نستطيع القول بأن صعود الأشكال الرمزية السومرية في الفنون الشعبية تمثل تعبيراً على الوحدة القائمة بين الجماعات ، والشعوب ، والمساعدة لها والمحفزة على البقاء والاستمرار في مكافحة قوة الطبيعة . أن تلك الشبكة الرمزية ، بحضورها المستمر ، وبما تنطوي عليه من قيم اجتماعية وثقافية وجمالية ، تمنح الإنسان أمكانية للتعايش مع الحياة ، وسط ظروف مؤاتية .
وعلينا أن نمنح تلك الشبكة الرمزية الواسعة ما تستحقه من فعالية ودر فاعل في خلق نوع من الوحدة بين شتى الفنون مثل النسيج وصناعة القصب والنخيل والعمارة والفخار …. الخ وتنوعها يوضح قوة واضحة ومتينة بين الفنون ، لتؤكد طاقة الحضارة المانحة لهذا الإرث الذي لم يكتف بالجغرافية الوطنية وإنما امتد بعيداً في بلدان الشرق القديم.