تواصل ثقافية الصباح الجديد نشر حلقات من كتاب: سرقة حضارة الطين والحجر للكاتب حميد الشمـري
الحلقة التاسعة
تناولنا في الحلقة السابقة كيف اولدت بلاد ما بين النهرين (بلاد الرافدين) ووادي النيل اعظم حضارتين عرفهما العالم ، والحديث عن اي منهما قد ظهر اولاً ، لا يخدم سوى غرض ضئيل ، ولكن يبدو الان محتملا بصفة عامة ان بلاد الرافدين سلكت الطريق بصفة اسع قليلاً ، وانها وهبت في عصر متقدم اكثر مما اعطيت.
في بداية القرن التاسع عشر عندما أخذ الضعف يتسرب إلى جسد الإمبراطورية العثمانية استغل أعدائها التقليديون ذلك الظرف وبدأت أعداد الرحالة والجواسيس الأوربيين تتزايد تتابعا إلى مناطق الشرق وكان من أبرزهم الجاسوس البريطاني (كلوديوس ريتش) عميل المخابرات البريطانية وكان بعمر (21 عاما) ويعمل ممثلا مقيما في بغداد لحساب الشركة البريطانية (شركة الهند الشرقية ) التي تأسست في بريطانيا سنة ( 1808) وكانت هذه الشركة من الواجهات السياسية للمخابرات البريطانية . وقد تجول في عدد من البلدان الشرقية ألتي يتقن لغاتها والتي كانت تشهد موجات من الاضطرابات والتناحرات الداخلية وكانت المنطقة كلها مسرحا للصراعات بين العثمانيين والايرانيين. وبسبب اهتمام بريطانيا بهذا الموضوع وإدراكا منها للقابليات التي يتمتع بها (ريتش) فقد تم تعيينه سنة (1808) مقيما سياسيا في بغداد عاصمة العراق المجاور للإمبراطورية العثمانية وكان (ريتش) يقوم أحيانا بزيارة التلال الأثرية القريبة من بغداد خاصة تلال بابل وأجرى فيها عدة أسبار اختبارية وعثر على بعض المخاريط والرقم الطينية والأختام الأسطوانية وبعد وفاته في بلاد فارس بمرض الكوليرا باعها ورثته لاحقا إلى المتحف البريطاني سنة ( 1820) فكانت أول مجموعة أثرية تخص بلاد الرافدين تدخل خزائن المتحف البريطاني وشغلت مساحة متر مربع واحد فقط. وتبعه بعد ذلك إلى المنطقة عدد من الجواسيس من أهمهم المبشر النصراني (جون آشر) وهو جاسوس يعمل لصالح الجمعية الجغرافية الملكية في لندن وقد قام بزيارة أثار تخت جمشيد (برسيبوس) قرب شيراز في إيران ( 1864) وتجول في بلاد فارس والأناضول وشمال العراق متابعا ومتفقدا أحوال القوميات المناهضة للدولة العثمانية في مناطقهم وقراهم وأحوال الجاليات اليهودية والنصرانية وحال معابدهم وكنائسهم وزار معابد اليزيديين والزرادشتيين وتابع عن قرب إنجازات البعثات التبشيرية للدول الأوربية بريطانيا وروسيا والأمريكية في شمال العراق وديار بكر وتحرى عن اسباب النكبات والمذابح التي تعرضت لها بعض الطوائف النصرانية, وقد حصلت بعثات هذه الدول الأوربية وامريكا على التراخيص لبناء وصيانة الكنائس والأديرة القديمة وكانت محاولات البعثات التبشيرية تنصب على نشر المذهب الكاثوليكي الموالي للغرب بين نصارى المشرق (الأرثودوكس) وهذا ما تم فعلا ونرى نتائجه اليوم حيث يتم تهجير نصارى الشرق من مواطنهم وتشتيتهم لأنهم لا يرتبطون بالغرب النصراني الصهيوني وكان الصراع الداخلي الخفي يدور بين البعثات التبشيرية نفسرها للقيام بنشر مذاهبها الطائفية المختلفة (الكاثوليكية والبروتستانتية والإنجليكانية) بين الجاليات النصرانية في تلك المناطق , وكان هؤلاء الجواسيس والمبشرون انتهازيون دائما يسارعون بالهرب عندما تصيب تلك المناطق موجات الأوبئة والأمراض المعدية مثل الكوليرا والطاعون ويتركون الناس بدون مساعدة أو محاولة إسعافهم وكان ذلك في مقدورهم , وفي منتصف القرن التاسع عشر بدأ البعض من أعضاء هذه البعثات التبشيرية و الدبلوماسية من غير المختصين بالآثار بل من الجواسيس والسراق (ولنسمي الأشياء بمسمياتها الحقيقية) بدفع من حكوماتهم بالمجيء إلى العراق وإيران وبلاد الشام لأغراض تم التخطيط لها مسبقا وكانت الدولة العثمانية غافلة عن حقيقة هذه المخططات.
الجاسوس المغامر رولنسون.. أبو علم الاشوريات
كانت اللقى الأثرية قد بدأت تتسب إلى الأسوان الأوربية من مناطق الشرق الأوسط وأدت إلى قيام بعض الاهالي بالحفريات غير المشروعة لنهب الطابوق والآثار الصغيرة والأختام الأسطوانية وبيعها للجاليات الأوربية وأعضاء الهيئات الدبلوماسية وهذا ما جعل بعض الدول الأوربية تفكر بإرسال عملاء وجواميس مختارين بعناية إلى المنطقة وفي سنة ( 1835) قام مغامر شاب يعمل ضابطا في المخابرات البريطانية اسمه (هنري كروزويك رولنسون) بمساعدة من السكان المحليين بالصعود إلى واجهة جبل (بهستون) القريب من مدينة كرمنشاه ٠ في إيران حيث يوجد ضريح داريوس الذي يرتفع عن الأرض ( 47متر) وقام باستنساخ ثلاثة نصوص من الكتابة المسمارية كتبت باللغات الفارسية القديمة والعيلامية والبابلية وكانت مساحة النصوص المنقوشة بطول (6 متر) وعرض ( ثلاثة متر وعشرون سم) تتكون من ( 789 سطرا) ثم قام بوضعها بين أيدي العلماء إلا أنه كان هو السباق لفك طلاسم ومغاليق هذ ٠ الكتابة بين الأعوام ( 835 1- 1844) ولذلك فهو يستحق دون غير ه أن يسمى (أبوعلم الاشوريات)
واجهة ضرح داريوس في جبل بهستون واماكن الكتابات الثلاث
بعد ذلك قام بعض المغامرون والسياح والتجار بشراء أحجار منحوتة أو منقوشة بكتابات مسمارية من تجار الاثار في العراق وجدت لها سوقا عند باعة التحف القديمة في أوربا فأخذ عدد المغامرين يزداد بالتوافد إلى هذه المناطق وبدأوا بشراء المخطوطات اليهودية والنصرانية والإسلامية والتحف والآثار الصغيرة
الموجودة عند الأهالي وبدأ الدبلوماسيون الغربيون يتحولون الى لصوص وسراق حتى أن القنصل الفرنسي في الموصل (بول إميل بوتا) كان من ضمن واجباته المكلف بها رسميا هو شراء المخطوطات القديمة وتهريبها بعد ذلك وتحديدا في منتصف القرن التاسع عشر توسع هؤلاء المغامرون بسرقاتهم فكانوا يقومون بالحفر العشوائي في التلال المنتشرة في بلاد الرافدين للحصول على القطع الأثرية وبدأوا في العواصم والمواقع الآشورية نينوى ونمرود (كلخ) و قلعة الشرقاط (آشور) وخرسباد (دورشروكين) وبلاوات في الموصل , ثم انتقلوا إلى الحفر في وسط وجنوب العراق في المدن السومرية والأكدية والبابلية والعربية مثل اور وتلو وكيش ولكش ونفر والوركاء وبابل و سر من رأى
اقتسام ومحاصصة استعمارية
بحلول منتصف القرن التاسع عشر وبعد نزاعات وصراعات ومؤامرات بين الدول الأوربية الصاعدة وبين الإمبراطورية العثمانية المنهكة وكان العراق أحد مسارح هذه الصراعات فقد تقاسمت الدول الأوربية فيما بينها غنيمتها من التلال الأثرية في العراق ممثلة بهيئاتها الدبلوماسية في عملية محاصصة استيلائية استعمارية غير مشروعة حيث صار من حصة بريطانيا تلاك النمرود ولاحقا تلال قوينجق وبلاوات في الموصل و المقير (أور) في الجنوب ومن حصة فرنسا تل قوينجق الذي تخلوا عنه بعد فترة وخرسباد في الموصل وتلو والأحيمر وسنكرة في الجنوب ومن حصة المانيا تلال آشور والعقر في الموصل وبابل وسر من رأى في الوسط والوركاء في الجنوب ومن حصة أمريكا تل نوزي في كركوك وتل أسمر(اشنونا) في ديالى ونفر في الجنوب , إضافة إلى استباحة هذه الدول لكل التلال الاثرية في العراق وكان كل ذلك يتم في غياب الوعي الحضاري والثقافي والآثاري عند المسؤولين العثمانيين , ففي سنة (1870) وصل مغامر الماني اسمه هنريثر شليمان وأخذ يحفر في تل مرتفع يسمى حصارلك قرب الدردنيل شمال غرب تركيا تحت سمع وبصر الباب العالي بحثا عن مدينة طروادة الأسطورية ( 1300 ( قبل الميلاد) وفي سنة 1876 (عثر على المدينة وعلى خمسة من قبور ملوكها ونهب وهرب جميع كنوزها.