مروة السراي
عندما يتناغم في النص أكثر من صوت ينقل رؤاه إلى المتلقي الذي يكون أمام أفكار وأيديولوجيات مختلفة, وهذا ما سماه باختين بالبوليفونية مستعيرا المصطلح من الموسيقى الكلاسية، وتعني تعدد الأصوات في الحكاية, فتتناوب على السرد أكثر من شخصية واحدة، فيلاحظ في النص تعدد للأفكار والرؤى ، وقد وظفت نازك الملائكة أسلوب تضمين القصيدة حكاية, ولعل قصيدتها (الخيط المشدود في شجرة السرو) من مجموعتها (شظايا ورماد) أفضل مثال على ذلك, فبُنيت على حكاية توالت على سردها ثلاثة أصوات مختلفة، حيث تتولى زمام السرد في بادئ الأمر الحبيبة التي أطرت زمان الحدث ومكانه الذي لم تعد فيه، فقد غادرت إلى عالم آخر وهي من ذلك المكان البعيد عالم الأموات ترسم ملامح هذه اللوحة التراجيدية التي اصطبغت بلون السواد المهيمن على بداية النص:
«في سواد الشارع المظلم والصمت الأصم
حيث لا لون سوى لون الدياجي المدلهم
قصة حدثني صوت بها ثم اضمحلا
وتلاشت في الدياجي شفتاه»
فكان صوتها مشبعا بالانفعالات المكبوتة وهي تخاطبه من مكانها البعيد وهي تتفجر ألما وشوقا، بينما هو يظن أنها تلاشت وتبلدت مشاعرها تجاهه، لكنها تستشرف وتتنبأ ما يحدث في الغد بأنه سيعود نادما حائرا ، لكن بعد ماذا؟؟؟ بعد ما انطفأت شمعة حياتها فغدا كل شيء ظلام داج، وأصوات اضمحلت ولن تعود، لتتركه وحيدا يسائل الشارع والدفلى والظلمة من غير جدوى:
«قصة الحب الذي يحسبه قلبك ماتا
وهو مازال انفجارا وحياة
وغدا يعصرك الشوق إليّا
وتناديني فتعيى, …
وهذا الحب الكامن والشغف المفرط تجاهه لم يتركها للحظة حتى بعد موتها، فبقيت روحها تواقة له تتابعه من عالمها البعيد تنتظر عودته للمكان الذي كان يجمعهما:
«وأنا نفسي أراك
من مكاني الداكن الساجي البعيد
ثم يستلم الحبيب زمام السرد وهو يتأمل هذا البيت الذي بقي كما هو، بيد أنه صودرت منه لحظات السعادة لتقتل الفرحة في قلبه وتتهيأ الحيرة والذهول لتحل محلها على الرغم من تيقنه من شعورها تجاهه بأنها ما زالت على عهدها، لكن الواقع أصابه بالدهشة، فلم تعد موجودة وراح يحاكي منزلها في صوت ملؤه الحسرة والألم:
«ها هو البيت كما كان, هناك
وهنا مجلسنا…
ربما كانت … ولكن فيم رعبي؟
هي ما زالت على عهد هوانا
ما زال منتشيا على أمل أن يجدها ليغتسل غسل التوبة والندامة بين يديها، باحثا عنها في أجواء المكان علّها مختبئة خلف بابٍ ، أو هي تتعمد التخفي، كانت هذه الأفكار تحتدم في مخيلته لحظة بحثه عنها متشحا ببقايا أمل سحيق بدأ ينفذ بعد لحظات من طرقه الباب:
«هل…؟» ويخبو صوته في نبرٍ حزين: «لا تقولي أنها…» لتبدأ لحظات الجنون :»أيها الحالم , عمن تسأل؟ أنها ماتت»
لم تستقبل جوارحه ومخيلته هذا الصوت وإنما بقي شاردا ذاهلا متأملا خيطا صغيرا شُد في الشجرة يحمل أسرارا و حكايا، وقد بدأ الذهول والشرود يرتسم بأوضح معانيه عندما ارتعشت كل جوارحه ودوي الصوت الذي هزه من أعماقه: «أنها ماتت» يسكب في أذنه رحيق متضمخ بألم الفجيعة بصوت ثالث أشبع بمرارة الفقد، فهيمنت عليه ظاهرة التكرار لشيء يصعب تصديقه ، فكان داويا تتردد أصداءه بين أروقة الظلمة التي عجّ بها المكان, صوت الأخت المفجوعة المليء بنبرات الأسى الخانق لمفارقتها أختها, فراحت في غير وعي تردد «أنها ماتت» في أكثر من تسع مرات في مقطعين من القصيدة ومن ذلك قولها:
«هي ماتت.. لفظة من دون معنى…
صوت «ماتت» داويا لا يضمحل
يملأ الليل صراخا ودويا
«إنها ماتت» صدى يهمسه الصوت مليّا»
هذا الصوت ظلت تردده الأخت لتضفي على حكيها نبرة اختلفت عن الصوتين الآخرين, فيلاحظ التوتر والانفعال النابع من لجة الألم، لذلك كان صوتها مشبعا حد التخمة بمفردات الفقد والتفجع والصور السوداوية التي أطبقت على النص واحتوته، ومن المفردات التي تكرر بعضها في أربعة أبيات متتالية:» سدى، غابت، استحالت، صراخا، الظلمات, الحزين، ماتت، يفنى، الرتيب، الليل، السحيق، الخانق،
خلا العالم منها…».
تأتلف هذه الأصوات الثلاثة مكونة أنغاما تسرد حكاية مأساوية بين طياتها لغز مريب يحمله خيط شُد في السروة لفه الحبيب على إصبعه بذهول، هذا الخيط الغريب الذي يطوي ألف سر هو مكان الحب الذاوي الذي انتهى بتلاشي واضمحلال صوت الحبيبة التي ترنو إلى هذا المكان وقلبها يتفجر شوقا له. هذا النص امتزجت فيه ثلاث وجهات نظر مختلفة كل منها تعبر عن منظورها الخاص، فكان صوت الحبيبة آتٍ من مكان بعيد محمل بالاشتياق والحب، وصوت الحبيب النادم الحائر المتحسر بعد فوات الأوان والأخت المفجوعة في حالة أشبه باللاوعي.