قصيدة النثر بوصفها نصا منتفضا
(2-2)
أ.د. نادية هناوي سعدون
وإذا كان الأسود هو الماضي والحاضر والمستقبل فإن حمر المواضي لن تكون إلا الدماء التي اختلطت بالحرب والدخان فاستحالت إلى سواد ويظل شاعر اليوم يعاتب متبرما من هذه المواضي التي لم نشهد لها صولات ولا انتصارات ولا بطولات بل هي المآسي تتكرر والخسارات تتوالى والإنسان يحتضر في لوحة الحياة كمعنى ويتناسل أوجاعا وهموما محاطا بالمربعات ومحاصرا بالخطاطات والشعارات.
وإذا كان الإنسان في الزمان الغابر يزهو بقوس قزح وتسعده ألوانه المتنوعة المطلة بالبهجة والحبور فان زمان اليوم هو زمان اللا قوس قزح وليس للإنسان الابتهاج لأنه تعيس بحياة تنز بالألم الممض بلا هوادة وأن قدر الإنسان في الحياة الكآبة والتعاسة والموت والصمت والانتظار ليكون وجوده في اللوحة وجودا مفترضا ليس إلا..
وإزاء هذا الواقع لا يكون أمام الذات المتوثبة إلا أن تعلن رفضها عبر طرح التساؤلات الصادمة والصريحة التي تتابع إشهارا لحالة التشرذم التي تمر بها الذات المنتفضة داخل الشعر، كجسد مشوه بياضه بهاق ونهايته دمعة وهذا ما يصعّد لحظة الوعي والاعتبار..
وقد تتأرجح قصيدة النثر نصا منتفضا على الزمان والمكان في قصيدة( حينما في الحلة) لتستكمل لوحة الحياة التي شمل السواد دورة حياتها والشاعر واقف واجم بلا صوت ولا صدى، وما ذلك إلا لان الموت هو الحتمية لدورة الماسي التي تجعل الطف طفوفا ولذلك يكتم إحساسه ويحبسه في هيأة مستطيل يدلل به على شعوره بالكبت وأنه مكتوف الأيدي غير قادر على ممارسة أي دور فاعل:
حصواتي بهاق ودهاني قيح واعشابي محاق
وقد استحالت المدينة وليمة لكل ما هو شرير ومدنس وهذا ما يتم التعبير عنه بصور وخطاطات وتأشيرات وتكثيفات فالكلمات لا تؤدي دورها من دون ان تبوح بواقعية ناقمة تترصد دقائق المشهد المنظور.
وما تبرم الشاعر من الواقع وتوجعه منه إلا نتيجة حتمية لمأساة تتكرر في دورة المآسي وهو يظل يحوم حول الواقع.
وفي نص( السيد إبرة) تتعزز اللمحة الدرامية ببطلها السيد إبرة الصنديد الذي ما كان له ان يضع روحه على راحته إلا وهو واقف على شفا جرف هار فسقط منه وما سقوطه إلا وقوع في اسر أعدائه.
وهو المغامر الذي يرجو نجاة والمدافع الذي ينتظر بارقة أمل تنقذه من العدو الذي رمز له بالخياط وهو يصارعه من اجل غد جميل لكن قيده وأسره يؤجل انتصار الحق وهو المحارب الدونكيشوتي الذي ما استسلم إلا بسبب الاعتقال وهو وان خارت قواه إلا انه لا يرضخ وهكذا تظل صيرورة المجتمع وتطلعه نحو الأحسن رهنا به في زمن عم فيه الخراب..
وياتي نص( رسالة إلى ذئب) امتدادا لنص( السيد إبرة) حيث الذات تنتفض على الاستكانة والتخاذل مناصرة السيد إبرة في أسره، ويكون نص( رسالة الطير) رسالة الذات المولعة بزمن الورد المستيقظ على زمن الدخان ولذلك صارت الذات تنقم منتفضة بالكلام وحده :
ففي شروق الظلام
روحي تهوم
لقد استيقظ الجنون
فصارت تصارع فضته بالكلام ص38
وتخترق السطور مربعات ومستطيلات وقد انفرطت داخلها حروف كلمة أو أختصرت بكلمة دلالات معينة ويتخذ هذا الاختراق شكل انتفاض امتدادي حيث كل نص سابق يسلم طائعا للنص اللاحق..
وتعمد الذات إلى الوجود لتراه على وفق رؤية الفلاسفة القدماء مكونا من أربعة اقانيم أو عناصر اختصرها الشاعر بكلمة( مهاتنار): الماء والنار والتراب والهواء وكل اقنوم يتخندق في لوحة الحياة مستكينا متعاطيا دوره بالمقلوب وبهذا تسوء اللوحة الحياتية وتتشوه:
لقد اتخم اقنوم التراب فصار جبلا ( بلا قمة)
وفاض اقنوم الماء فصار تيهورا (بلا نوح)
وأجج اقنوم النار فصار جهنم( بلا حساب)
وعصف اقنوم الهواء فصار روحا
تتجول بين خرائب الاقانيم ص53
وفي نص( اقنوم الماء) نجدأ حكاية الحياة يتقاسم بطولتها عنصران هما الطير والطبيعة اللذان كان في تصالحهما خير الوجود وسلامته أما اليوم فما عاد لوجودهما حضور . وتكمل نصوص( اقنوم النار) و(اقنوم الهواء) و( اقنوم التراب) حكاية الحياة..
ويتحول نص( أيام آدم الفاني) إلى قصة قصيرة جدا تتخللها انزياحات شاعرية تستحيل انثيالات تشبه الخواطر لكنها تداعيات لاواعية تنتفض على الزمان ممثلا باليوم بعد أن تتوزع فضاء الورقة أفقية السرد وعامودية الشعر..
ويبنى نص(سنمار) على التناص مع بيت الجواهري الذي هو في الأصل متناص على المستوى الموضوعي مع حكاية سنمار الذي صار مثلا يضرب على الغدر ويطوع جبار الكواز على المستوى الجمالي نصه ليكون منتفضا على حكاية سنمار بنصين بحروف صغيرة وكبيرة احدهما سرد مواز لآخر هو قصيدة نثر ويفصل بينهما خط ممتد باسهم، يتبعها بملحق هو عبارة عن برقيات تسع بعنوان ( ملحق برقيات سنمار) تتخذ صيغة قصيدة النثر.
ويكون نص( ألواح) عبارة عن مقاطع شعرية يفصل بينها مربعات داخلها مواقيت مبتدئة بالقرون ومنتهية بالثواني أما نص( ما تبقى لعطيل) فان الذات تسرد فيه قصة أخطائها بضمير الغائب في حين يضع الشاعر ما تسرده الذات بالأنا من أخطاء بين مستطيل وضع على جانبيه مربعان صغيران وتتكرر هذه الترسيمة سبع مرات وكأن الذات الخطاءة وهي تبوح لا تملك إلا ان تتكور في داخل شكل مغلق ..
ويكون نص( من الضاحك في المرآة) نصا تجريبيا برؤية فلسفية إزاء الكون ولعل هذا هو السبب في اتخاذه عنوانا رئيسا للمجموعة. والنص عبارة عن قصيدة نثر تحكي سيرة الحياة بأربعة أجزاء اتخذت عنوانات( سيرة الهواء وسيرة الماء وسيرة التراب وسيرة النار) ويتخذ انتفاض النص شكل نص يتناثر على جانبي النص الأصل منفرطا انثيالا ومنشطرا تداعيا بلا قصدية وبشكل عمودي وبخط كبير وغامق .
وما ذلك إلا انطباع رؤيوي ينطلق من استيعاب نظرية المحاكاة الأرسطية حيث الموجودات ليس لتكونها هيأة واحدة انها مزيج من عناصر هي في الاصل صورة تحاكي صورة المثال أو بعبارة أخرى هي محكيات تحاكي مثالية حياة تتسامى فيها النفوس منتزعة من دواخلها نزعات الشر السوداوية التي صادرت الفطرة وأظلتها عن سلوك طريق البراءة والصفاء..