خالد الشاطي
قيّدته بإحكامٍ تام . عشرونَ متراً من حبلٍ سميكٍ التفَّ على طولِ جسدهِ النحيل . تركتُ رأسه فقط ؛ لأنني أردتُ إيصاله حياً إلى القرية .وعاجزاً عن إتيانِ أيةِ حركةٍ ؛ بدا في نهاية حوضِ سيارة الإيفا مثل سمكةٍ مقليةٍ ، مشحوفٍ صغير، مومياء ، أو طفلٍ مُقمَّط .
قبل ساعة ؛ تعرضَ موكبُ الآمرِ لكمينٍ من ثلةٍ من الإرهابيين . دمّروا سيارتين كانتا تصحبانهُ وقتلوا من فيهما . ولولا إن فصيلنا تحرك لنجدتهِ لكان قضى هو وأفراد حمايته الثلاثة المتبقين . كنا أكثر عدداً وأفضلَ عدةٍ من الإرهابيين لذا تمكّنا منهم ولم ينجُ منهم سوى ثلاثة وقعوا بأيدينا .
رفضتُ أن أسجلَّ اسمي في قائمةِ المكرّمين .
(( أريد واحداً من هؤلاء ! ))
لم أتردد كثيراً . الزهو بالمشاركة في هذا الانتصار الساحق وخوفِ فواتِ فرصة قد لا تتكررُ دفعاني لأتقدمَ بهذا الطلب . كنتُ واثقاً من حيث لا أدري إنّ طلبي سيُلبَّى .
الدهشةُ التي يثيرها مثلَ هذا الطلبِ بدتْ على مُحيا الآمرِ مصطنعةً .لامبالاته كانت نابعةً من الامتنان العميق لي ولرفاقي ،امتنان لا غرابة أن يتمظهرَ بكرمٍ لا حدودَ له. لو كنتُ طلبتُ إحدى ذراعيهِ لارتسمت الدهشةُ اللامباليةِ ذاتها على محياهِ ، فكيف بإرهابي كادَ يقضي على حياته قبل دقائق ؟ وكمكافأة أخرى تقرَّرَ إعطاءَ أفرادِ الفصيلِ جميعهم إجازةً .وهكذا تحركنا جنوباً في بضعِ سياراتٍ في طريقنا نحو بيوتنا . كنتُ متلهفاً للوصولِ إلى القرية. ومن حسنِ حظي أنني الآنَ في رتلٍ عسكري ما يعني مرورنا في الشوارعِ ونقاطِ التفتيشِ دونَ توقفٍ يُذكَرُ . ما إنْ إنطلقنا حتى سمعتُ اسمَا بن عمي يُهمسُ من قِبل المقاتلين الذين كانوا معي في السيارة ؛ ابن عمي الذي قضى بيننا برصاصةِ قناصٍ والذي لم تحل أربعينيته بعد.لذا صرت قريباً من مكافأتي … هل بدوت ككلب يحرس صيداً ؟!.
عندما مررنا بمنطقةٍ مقفرةٍ صارتْ نظراتهم إليه مُقلقةً . رأيتُ أيدي بعضهم تتحسسُ حرابَ بنادقهم . خشيتُ أن يبلغَ بهم الانفعال والغضبُ إلى رميهِ من السيارةِ للكلابِ والجوعِ والعطشِ .ولأخففَّ من مشاعرِ غضب هم وأبدّدُ شيئاً من رتابةِ ومللِ الطريقِ الطويل ؛ سمحتُ لهم بالعبثِ به قليلاً مُطالباً إياهم باحترام رغبتي . ركلوه،صفعوه ، اتخذهُ أحدهم مشحوفاً وراح يجذّفُ ببندقيتهِ . نتفَ أحدهم لحيته الكثة . بالَ آخرٌ على وجههِ . ثم راحَ آخر يدغدغُ فتحتي أنفهِ بريشةٍ لنضحكَ على عطساتهِ المكتومة .كلُّ مقاتلٍ يترجلُ في الطريقِ من حوضِ السيارةِ ؛ كان يأخذُ معه إلى بيتهِ جزءاً من قلقي ويضيف فرصةً لإنجاحِ أملي : أن أوصله حياً إلى القرية.
عند باب بيت عمّتي توقفَ رتلُنا . كان حشدٌ من الأطفال قد تبعنا منذ لحظةِ دخولنا القرية . ساعدني ضابطُ الرتلِ في إنزال الإرهابي من السيارة . دخلنا البيتَ ووضعناهُ على أرض الباحة . أطلتْ عمتي من الداخلِ حافيةً مُجللةً بالسوادِ .
((ما هذا ؟! ))
ارتجفت شفتاي((هذا بدل ابنك يا عمتي ))
(( إرهابي ؟! )) صاحتْ و التمعتْ عيناها ودبَّ في جسدها نشاطٌ غريب وهي تقتربُ منا لتحدّقَ في عينيّ .
(( لطالما حلمتُ بهذا ))
اتجهتْ إلى الحديقةِ . راحتْ تبحثُ بين جذوعِ الأشجارِ عن شيءٍ ما . كان أهالي القرية قد احتشدوا عند البابِ بعضهم دخلَ الباحةَ والحديقة وبعضهم كان يراقبُ من فوقِ السياجِ الطيني الواطئ. عادت عمتي لتقفَ أمامنا وهي تحملُ منجلينِ معقوفينِ مثلَ هلالين . قالت وهي تقلّبُ المنجلينِ :
(( قبل أن يذهبَ كان يُعيلنا من تكريبِ النخل ))
خطتْ نحو الإرهابي .وجلستْ على بطنهِ . أخذ الإرهابي يصرخُ . كانت عمتي تحدّقُ في وجههِ بهدوءٍ . ثم شرعتْ تنقرُ رأسه ووجهه بنصلِ السكين بتتابعٍ آلي بطيء . كان الإرهابي يصرخُ بكلماتٍ غير مفهومة ربما كانت بالهندية أو الأفغانية أو الشيشانية أو أيةِ لغةٍ أخرى لعينة . ورغم هتافِ وضجيجِ الأهالي ؛ استطعتُ أن أتبينَ من بين صراخهِ كلمات : حياة ، مُزلم ، كلب عكور . قال الضابط
(( ربما يطلب منا أن ننهي حياته بسرعة ))
واصلت عمتي النقر حتى بعد أن لم يعد يصدر من الإرهابي صوتاً أو حركة . لمّا صارت السكينتان تخرجانِ مخَّ الإرهابي تقيأ الضابط وأشارَ للجنود بالمغادرة .
حزّتْ عمتي رأسَ الإرهابي بضربةٍ واحدةٍ .
وضعنا الرأسَ والجثةَ في كيسٍ ، ورمينا الكيسَ في الزبالة .