الطوفان

شيماء المقدادي
في ضياع العقل اغتصبها واستمتع بطيبات جسدها، وفي غياب المنطق امتلكها واستبد بجمال ملكه، تارة يأتيها جبارا وأخرى زاحفا طالبا إليها المودة وفي كلا الحالتين كان يأخذ وكانت تعطي، آهاتها تلذذه وآهاته تحرق وجهها، تغتسل بماء الورد لتبعد أثار لمساته الهمجية ورائحة جسده البربرية، وفي سخرية من القدر أو غفلة من الزمن تنجب طفلها الأول ..
يعلمه أن يتهجى في شهره الأول حرف الدال.
في شهره الثاني علمه حرف الميم
في السنة الأولى كان يتمتم بطفولة بريئة.. دم .. دم
يصفعها.. تتعرى..تهبط معه الى لا قرار.. بعد أشهر يبتسم سوء الحظ لتنجب طفلها الثاني
في الشهر الأول علمه أن يتهجى حرف الألف
وفي الشهر الثاني علمه حرف النون
في الشهر الثالث أعاد عليه حرف الألف مرة أخرى.
في السنة الأولى كان يتمتم بطفولة.. أنا .. أنا
يقبل كفيها ويبتسم لها.. يمسد شعرها ويهبط بكفيه إلى ذراعيها، يحملها إلى فراشه.. يخسف القمر وتكسف الشمس في مولد طفلتها الأولى ..
في الشهر الأول علمها حرف النون
في الشهر الثاني علمها حرف الألف
في الشهر الثالث علمها حرف الراء
في السنة الأولى كانت تتمتم بطفولة ..نار ..نار
خرج بأطفاله متحديا الكواكب والنجوم. أطفاله الصغار أقوى من ألف رجل ويعادلون ألف بعير، جاريته لم يسمعوا بمثلها بين جواري هارون الرشيد أو حكايات السندباد، قصوره غار منها المأمون وتساءل عنها الأمين !!
ضرب بالسوط في الهواء فصرخ الطفل الأول: دم..دم
وسوط ثان في الهواء صرخ الطفل الأخر: أنا ..أنا
وسوط ثالث في الفضاء صرخت الأخيرة: نار..نار
وسوط أخير ..صرخت :أولادي..أولادي
بين جدران رطبة وزوايا مرعبة قيدها
قال : تمردت وهذا جزاؤك .
قالت : وهبتك نفسي !
قال : بالقوة .
قالت : أطفال !
قال : مني لا منك .
قالت : والألم !
قال : مكرهة .
قالت : فإلى أين ؟
قال : هنا مقرك وانا في القصر فوق سجنك أعيش.
قالت : والأولاد ؟
قال : أمهم ماتت.
ألقت بردائها عن الجسد الخمري، رائحته تملآ انفه رغم رائحة زنزانتها، تتسلل كالمخدر إلى أعصابه، يسحبها من ذراعيها إلى الأرض، طعمها يختلف في كل مرة لكنها انسحقت بين برودة الأرض وحرارة شهوته ..تسلق السلالم إلى أعلى نادته :
– وأنا!
قال : هنا مكانك .
– لكني أريد شمسا وماء وهواء وسماء
– قال: تملكين ذلك وأنا معهم .
– قالت : أملكك أم تملكني ؟
– قال : لا فرق فأنت دوني لن تكوني وأنا دونك لن أكون .
– قالت : مللت جسدي ؟
– قال :كل يوم له طعم .
– قالت : ولوني ؟
– قال : كل زاوية بلون .
– قالت : فماذا ؟؟
– قال : أخاف عليك وهنا تكونين بأمان .
– قالت : أولادي !!
– قال : هم أولادي أولا .
– قالت : علمهم كلمات أخرى .
– قال : يضعفون .
– قالت : بل بكلماتك يقتلون .
– قال : غدا سترين الأرض ملكنا والسماء طوعنا .
– قالت : الطوفان يبدأ من هنا وأنا أول القتلى .
– قال : لا طوفان ، السوط بيدي .
– قالت : لا قبل لك بهم .
– قال : من ؟؟
– قالت : من تريدهم ان يكونوا طوع أمرك .
– قال : إن غدا لناظره قريب
– قالت : ذهبت السكرة وجاءت الفكرة .
– قال : امكثي إلى يوم الطوع
– قالت : ضاع أولادي .
– قال : فابكي ، وليقولوا مجنونة .
– قالت : سأبكي ، وما امتلك غير الدموع .
خرج لأطفاله صارخا بهم ( هذه الأرض بما رحبت ملك لكم )
قالوا : أين أمنا ؟؟
قال : ترعاكم .
قالوا : نريدها بجانبنا .
قال : تعلموا ما أريد ثم أحبوها إن أردتم .
قالوا : هي أمنا !
قال : وانتم انتم .
بعد سنوات مرت بالنسيان على قلوب أولادها وملكها المعظم خرجت من تحت الأرض، سارت بين القصور الفارهة فصرخ بحاشيته: أبعدوها، أي متسولة هذه ؟؟
أبعدوها بالشتم والضرب، رآها طفلها الثاني فابتسمت له، صرخ بالجارية لتهب إليه بما يطفئ ألمه.. اجترع الشراب وجلد الجارية أمام الخدم فابتعدت وابتعدت.
سكنت متاهات.. طمع الرجال بجسدها الذي كل يوم له طعم وكل زاوية بلون، راودوها عن نفسها فتلت عليهم (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا ..) جمعت بعضا من ضياء القمر وجزءا من أشعة الشمس في صرة وحملتها تجوب الأرض تبحث عن ارض وسماء وأطفال يقولون أماه. لكن السماء تختفي والأرض تضيق وهي تبتعد والأطفال يصرخون وراءها مجنونة ..مجنونة
في بقعة بعيدة سكنت، الريح تحمل إليها أخبارا وأخبار تنصت إليها، أطفالها كبروا. وملكها المعظم يصرخ بالعباد ( أنا ربكم الأعلى ) والناس يصفقون بين ترغيب وترهيب والأطفال ينادونهم بما علمهم أبوهم.
على مسار النجم عادت، سمعت بإعصار قادم إليه، عبرت أراض وأراض، عطشت أيام وتسولت الخبز حتى وصلت، المدينة كانت في هرج ومرج، الإعصار دمر كل شيء واقتلع القصور. بحثت كالمجنونة بين الأنقاض عن أولادها.. من بعيد رأت ولدها الأول يغرق في بركة من الدم وأمامها ساقوا ولدها الثاني يصرخ كالمجنون ألا تعرفون من أنا؟ أنا ..أنا. ولم تستطع ان تطفئ النار التي التهمت الطفلة الوحيدة، سارعت نحو القصر أرادت أن تراه لكن الرداء نزع عنها واستباحها العشرات من الرجال، وما زالت تصرخ أطفالي .. أطفالي.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة