الدكتور عادل الثامري
مقدمة
تتجلى في قصة “رائحة القميص” للقاص ضياء الجبيلي رؤية للأثر عبر ثنائية الحضور والغياب، اذ يتحول القميص من مجرد قطعة ملابس إلى دال سيميائي مركب يختزل جدلية التشبث بالماضي. يعمد النص إلى توظيف أنطولوجيا الأشياء المادية لاستكشاف العلاقة الجدلية بين الذات وموضوعها المفقود، مما يؤسس لخطاب سردي يتأرجح بين الحسي والمجرد. يمكن قراءة القصة وفق منظور التحليل الظاهراتي للذكرى، اذ تصبح العناصر الرمزية (القميص، الريح، الوسادة) بمثابة آليات استرجاعية تقاوم فعل النسيان الوجودي. تستدعي هذه البنية السردية إشكالية الزمنية وتشظي العلاقة مع الآخر الغائب، فتغدو المرأة في حالة ترقب دائم لانمحاء الأثر الذي يمثله القميص.
جدلية الحضور والغياب في بناء الشخصيات
تشكل الشخصيات في نص “رائحة القميص” لضياء الجبيلي بؤرة ظاهراتية تتكشف من خلالها ثنائية الوجود والعدم. إذ يتأسس النص على فضاء سردي تتخلله تمظهرات الشخصيات كتجليات للوعي المدرِك والمُدرَك في آن واحد. يمكننا استنطاق هذا الفضاء من خلال تحليل الشخصيتين المحوريتين والعلاقة الإشكالية بينهما. تتجلى شخصية المرأة كذات مدركة تسعى إلى تحقيق استمرارية الحضور في مواجهة الغياب. تتموضع المرأة في النص باعتبارها مركزا إدراكيا تتجه قصديته نحو القميص باعتباره أثراً للحبيب. تكشف عبارتها المحملة بثقل الرغبة “لا أحلم بأكثر منه، وفيه رائحتك!” عن بنية وعي يتأرجح بين الإدراك الحسي المباشر (الرائحة) والبعد الترانسندنتالي (الحلم). ويمكن قراءة فعل المرأة بإخفاء القميص داخل الوسادة كاستراتيجية لتحويل الأثر المادي إلى جزء من “العالم المعيش” في محاولة لتجاوز ثنائية الحضور/الغياب عن طريق خلق فضاء بيني يتموضع فيه القميص كحضور للغائب.
يتشكل الحبيب / الآخر في النص كأفق يتأسس وجوده بفعل غيابه المادي وحضوره الرمزي. إن ارتهان وجود الحبيب بالقميص إدراكيا يجعل منه شخصية تتحرك بين مستويين: المستوى التجريبي المتمثل في ذكرى وجوده السابق، والمستوى الترانسندنتالي المتمثل في استمرارية حضوره كآخر في وعي المرأة. تكشف عبارته المراوغة “قد يطير!” عن وعيه بهشاشة استمراريته كموضوع إدراكي في عالم المرأة.
تتأسس العلاقة بين المرأة والحبيب على ما يمكن تسميته بـ”ظاهراتية الغياب”، اذ تتحول العلاقة العاطفية من تفاعل مباشر بين ذاتين إلى علاقة إدراكية بين ذات حاضرة (المرأة) وأثر الغائب (القميص). هذا التحول في بنية العلاقة يكشف عن إشكالية في الإدراك الظاهراتي: كيف يمكن للذات أن تدرك الآخر في غيابه؟ وتصبح الوسادة التي تحتضن القميص فضاءً بينياً تتلاقى فيه الذات مع آثار الآخر، مؤسسة تجربة إدراكية جديدة تتجاوز الثنائيات التقليدية للحضور والغياب.
الرمزية في قصة “رائحة القميص”
تتأسس البنية الرمزية في نص “رائحة القميص” على تشكيل شبكة دلالية معقدة تتجاوز البعد التمثيلي المباشر لتؤسس نظاماً من العلامات المتداخلة. إن الرموز المحورية في النص (القميص، الريح، الوسادة) لا تقدم نفسها كدوال مباشرة، بل كعلامات مرجعية تتراوح بين الوجود المادي والبعد الاستعاري.
يشتغل القميص في النص كعلامة سيميائية مركبة تمارس وظيفة كنائية مزدوجة: فهو يحيل إلى الحبيب الغائب (الجزء الدال على الكل)، وفي الوقت نفسه يشير إلى العلاقة العاطفية بأكملها (الجزء المُمَثِّل للكل). تكشف عبارة المرأة “لا أحلم بأكثر منه، وفيه رائحتك!” عن القيمة الاستبدالية للقميص، اذ انه يتحول من موضوع مادي إلى حامل للأثر. وتعمل الرائحة هنا كدال حسي يؤسس لاستمرارية الحضور في الغياب، محولة القميص من مجرد ملبوس إلى نص جسدي يُقرأ ويُستنطق. يمكن تفسير فعل ارتداء الوسادة للقميص كاستراتيجية سيميائية تقلب المعادلة الدلالية، فيتحول القميص من دال على الآخر إلى متلقٍ للدلالة، ما يؤسس لتبادل مستمر للمواقع الرمزية بين الذات والموضوع. هذا التحول في العلاقة الدلالية يكشف عن بنية اشتهائية تتجاوز ثنائية الحضور/الغياب لتؤسس لاقتصاد رمزي متحرك.
وتتموضع الريح في النص كعلامة مفارقة تجمع بين الحضور المادي (كعنصر طبيعي) والبعد الميتافيزيقي (كرمز للقدر). تأتي عبارة الحبيب التحذيرية “قد يطير!” لتؤسس للريح كقوة قدرية تتجاوز سيطرة الذات، ما يخلق علاقة تضاد بين إرادة الاحتفاظ (المرأة) وحتمية الفقدان (الريح). يمكن قراءة الريح وفق تصور باشلاري للعناصر الأربعة، حيث يمثل الهواء عنصر الحركة والتغيير، مقابل الثبات الذي يمثله القميص. هذا التقابل بين العناصر يؤسس لثنائية دينامية/استاتية تحكم البنية الدلالية للنص. لا تعمل الريح هنا كعنصر سردي، وانما كاستعارة كبرى للزمن نفسه، الذي يمحو آثار الذاكرة ويعيد تشكيل الهوية.
تشكل الوسادة في النص فضاءً دلالياً مراوغاً يتأرجح بين وظيفتين متناقضتين: الحماية والتهديد. تتحول الوسادة من ملاذ آمن للقميص إلى سبب لفقدانه، مما يؤسس لثنائية دلالية تعكس إشكالية الذاكرة نفسها كفضاء يحفظ ويمحو في آن واحد. تمثل الوسادة فضاءً خاصاً يحاول احتواء تجربة الآخر. لكن الريش داخل الوسادة يعمل كعنصر مقاوم يقوض هذه الوظيفة الحمائية، ما يكشف عن هشاشة الفضاء الخاص في مواجهة الزمن. تتجلى الوسادة أيضاً كاستعارة للعقل الباطن أو الذاكرة اللاواعية، حيث تختبئ الذكريات لتعود وتظهر في لحظات غير متوقعة.
خاتمة
تمثل قصة “رائحة القميص” لضياء الجبيلي نموذجاً دالاً على النص الأدبي الذي يتجاوز حدود السرد المباشر ليؤسس لخطاب وجودي ذي أبعاد فلسفية. هذه القصة معمار سردي متماسك يستثمر العلامة السيميائية في بناء فضاء دلالي معقد ومتعدد المستويات. ما يميز هذا النص هو قدرته على تحويل العناصر المادية اليومية (القميص، الوسادة، الريح) إلى حوامل رمزية تتخطى وظيفتها الإشارية المباشرة لتصبح وسائط لاستكشاف جدليات وجودية أساسية: الحضور/الغياب، الاحتفاظ/الفقدان، الذاكرة/النسيان. هذا التحويل يتم عبر بناء شبكة علائقية بين هذه العناصر، بحيث يصبح كل عنصر مرآة تعكس العناصر الأخرى في تضافر دلالي مكثف.