زياد بركات
كانت تلك تحية متأخرة بنحو مئة وثلاثين عامًا أو أكثر.
في الثلاثين من مارس/ آذار عام 2020، وتحديدًا في الساعة الثالثة والرُبع فجرًا، دخلت مجموعة من اللصوص متحف “سينغر لاين” الذي يبعد نحو ثلاثين كيلومترًا عن العاصمة الهولندية “أمستردام”.
كسروا الباب الزجاجي للمتحف، وتوجهوا مباشرة إلى لوحة “حديقة القسيس في نيونيين في الربيع” للفنان الهولندي الانطباعي ذائع الصيت فنسنت فان غوخ، وأخذوها معهم وهم يغادرون، غير مبالين بأي لوحة أخرى أو أي من مقتنيات المتحف.
في صباح اليوم نفسه تحوّلت السرقة إلى خبر عالمي بامتياز، فأي مجنون ذلك الذي يتجوّل في شوارع أمستردام وسط توحش جائحة كوفيد-19، التي ألجأت إدارة المتحف إلى إغلاقه مثل العديد من المؤسسات عبر الدول التي فرضت إغلاقات صارمة في مدنها وبلداتها؟
ثم أي مجنون ذلك الذي يفعلها ويسرق إحدى لوحات فان غوخ؟ ولأي غرض؟
لم تكن تلك هي المفارقات الوحيدة في حادثة السرقة وحسب بل أيضًا في كونها حدثت في الذكرى الـ167 لميلاد الفنان (30 مارس/ آذار 1853 – 29 يوليو/ تموز 1890)، وبعد نحو 130 عامًا على وفاته منتحرًا في قرية أوفير شمالي فرنسا، بإطلاق النار على صدره.
مات منتحرًا عن 37 عامًا
فارق فنسنت الحياة متأثرًا بجراحه، عن سبعة وثلاثين عامًا كانت حافلة بالتقلبات والاضطرابات النفسية، أنتج خلالها نحو 2100 لوحة وعملا فنيا، من بينها أكثر من 800 رسمها في السنوات الخمس الأخيرة من حياته.
وللمفارقة المؤسفة فإن فان غوخ الذي أصبح من أكبر أساطير الفن المعاصر في العالم، لم يبع سوى لوحة واحدة في حياته، وهي لوحة “حقول الكرم الأحمر بالقرب من آيرل”، الموجودة حاليًا في متحف بوشكين الحكومي للفنون الجميلة في موسكو.
كانت السرقة والظروف التي أحاطت بها تبدو للوهلة الأولى كأنها من إنتاج خيال عابث و”متهتّك” لا يقيم وزنًا لشيء، وفي الوقت نفسه، بمثابة تحية ساخرة من المجتمعات والسلطات عبر العالم التي تحبس الفن في المتاحف، والمجانين في مستشفيات أشبه بالسجون، فجاء اللصوص بعد أن حبست جائحة كوفيد هذه السلطات والمجتمعات في أكبر عزل عرفه التاريخ، ليحرّروا الفن من “عقل” الدولة وسلطاتها، كأنهم يقولون لها وللعالم: عليكم أن تتذكّروا أن فان غوخ ولد في مثل هذا اليوم.
سرقة أشبه بفيلم سينمائي
أهو خيال إبداعي يمكن لأي مخرج سينمائي تحويله إلى قصة تُروى؟ بلى، عن حياة واحد من أعظم الفنانين التشكيليين في العالم، والذي لا يدانيه شهرة سوى قلة من الفنانين الكبار مثل ليوناردو دا فنشي ومايكل أنجلو وبابلو بيكاسو وآخرون لا يتعدون عدد أصابع اليدين.
عرفت السينما فان غوخ مبكرًا، وربما كان أكثر الرسامين حضورًا فيها، من حيث عدد الأفلام المنفردة التي خصصت بأكملها لتناول إحدى جوانب شخصيته المكتنزة بالدراما العالية، فقد ولد في 30 مارس/ آذار عام 1853 لأب قسيس، بعد عام فقط من ولادة شقيق له توفي خلال الولادة ويحمل الاسم نفسه، وهو فنسنت الذي يفضّل العديد من المؤرخين استخدامه في تأريخ حياة فان غوخ ومسيرته الفنية.
عُطف على هذا علاقة أمه الجافة معه، والتحاقه بمدرسة داخلية لنحو عامين، وتركه الدراسة كليًا وهو في الخامسة عشرة من عمره، وإصابته فيما بعد بموجات متلاحقة من الكآبة الحادة التي شُخصّت بعد عقود على انتحاره بـ”الاضطراب ثنائي القطب” الذي يتسم المصابون به بتقلبات حادة في المزاج، والتأرجح بين الاكتئاب الحاد والشعور العالي بالسعادة والامتلاء العاطفي والغضب وغير ذلك من مشاعر متناقضة تصل في حالتهم إلى حدودها القصوى.
لم يبع سوى لوحة واحدة في حياته.. فان غوخ في السينما و”أحلام” كيروساوا

التعليقات مغلقة