علوان السلمان
لقد وضع (جاك اندريه) بعض المبادئ الجوهرية لدراسة أي نص أدبي وحصرها بـ (التراكيب التصويرية أو الوصفية) و(التراكيب السردية (الافعال) و(التراكيب الوجدانية او العاطفية ( صور/ رموز/ عناصر صوتية..) وأخيرا (التراكيب الدرامية ( عناصر الصراع الذاتي او الحدث..).. كون النص الابداعي مظهر سوسيولوجي ينبثق من ارضية اجتماعية وتاريخية وثقافية تشكله (سلسلة من الاصوات التي ينبعث منها المعنى) كما جاء في نظرية الادب.
والسرد الروائي ..المغامرة الفكرية الكاشفة عن مكنونات الوجود بتغيراته الزمكانية المندرجة في خانة الحدث.. باعتماد التمازج بين الواقعي والتخييلي لتحقيق عوالم تتجاوز المألوف عبر مسارات جمالية ورموز مستفزة للذاكرة..تكشف عن مزاوجة الحياة باللغة.. مزاوجة المعنى في المبنى.. لتحقيق الدور الجمالي الذي هو عملية وصفية تستهدف الاثر وتعيد بنائه بالتفسير والتحليل والتقويم..
وباستحضار النص الروائي(حكايتي مع راس مقطوع) الذي نسجت عوالمه الرقمية الـ (29) انامل منتجه تحسين كرمياني …واسهمت دار رؤى للطباعة والنشر في نشره وانتشاره/2024..كونه يعتمد عمليات وصفية تستهدف الاثر باعتماد الرصد والمتابعة لمعالم الوجود والظواهر الاجتماعية والبيئية لينتج نصا أدبيا يتكئ على التوثيق والتسجيل لمعالم (طبيعية/ حضارية/ اجتماعية…) فيؤدي دورا استكشافيا واعترافيا ومعرفيا على المستوى الفني والتكنيكي باعتماد الحوار بشقيه الذاتي والموضوعي مع توظيف لغة متكئة على الوصف وشفافية اللفظ المتوهج.. البعيد عن التقعر والضبابية..ذو الدلالة الجمالية الخالقة لموقف يطرح فكرا برؤية متفاعلة والانا الجمعي الآخر..باقترابها من اليومي وتفصيلات الواقع بكل تناقضاته وتوتراته..لينتج نصا مكتنزا بالظواهر الاجتماعية المتكئة على التوثيق والتسجيل لمعالم حضارية وطبيعية واقتصادية..ابتداء من الايقونة العنوانية والعلامة السيميائية التي انبثقت واعتلت البنائية النصية مشكلة مكونا نصيا ودالا شكل سلطة النص..وهذا ما اهله للكشف عن طبيعة النص والاسهام في فك رموزه ..باعتباره عتبةseuil تتمتع بخصائص تعبيرية وجمالية كالإيجاز وكثافة الدلالة.. إضافة الى انه نص مواز يختزل نصا عبر الترميز والتلخيص محتفظا بوظيفته الجمالية التي تتمثل في تزيين المنجز وتنميقه واضفاء الروح الجمالية التي تثير المستهلك(المتلقي) وتشده صوب مضمونه..من اجل تحقيق الوظيفة التداولية التي تكمن في استقطاب المتلقي واغوائه..كونه
عالما مستقلا بوظيفته الكاشفة لمغاليق النص بما يكتنزه من علامات احالة مقصدية للنص والمتلقي..اضافة الى طاقته الايحائية..التي تشكل بؤرة تكشف عن مكنونات النص التي تثير عددا من التأويلات على مستوى البنية العميقة المبنية على التناص الابداعي.. فيشكل والنص بنية معادلية كبرى كما يقول جيرار جنيت.. لذا فهو من العناصر الرئيسة ..الموجهة للنص..
(كنت كلما امسك كتابا اجدني اتنافر معه من السطور الاولى..على عكس ايامنا المنصرمة حيث كنت امسك الكتاب لست ساعات من غير توقف, وكانت ذاكرتي تلتهم الكلمات كنار تأكل الهشيم , وتنشد مع المواقف المثيرة التي ما زالت تتلبسني بحرارة لا توفرها كتب اليوم..حاولت ان اتصالح مع موهبتي, قررت الجلوس الى الكمبيوتر في انتظار الغيمة الذهبية للكلمات,تمر الدقائق والساعات قبل ان تنفر الكلمات من راسي, تتناهبني موجات متواصلة من النعاس, تأخذني الصفنة العميقة وتسرقني الساعات العقيمة, ويداهمني الفجر من خلال أصوات المساجد وهي تعلن انبلاج الفجر عبر التسبيح ورفع مراسيم الآذان..) ص13ـ ص14..
فالنص يكشف عن وعي جمالي ينطلق من الحكائية واللحظة ليعيد تشكلها عبر منطق داخلي متفرد بوظائفه ومكوناته وازمنته..من خلال الجمع ما بين الذات والموضوع الثنائية الجدلية التي تشكل بمحتواها الهام المنتج الذي يمتلك قدرة على فهم الحياة بمكوناتها وقوانينها للتعبير عن مشكلات الانسان الكونية من جهة..وتحقيق عوالم تتجاوز المألوف ومقصديتها الذاتية لتسهم في تعدد الرؤى النصية المتفاعلة ومعطيات الحداثة التي زحزحت النص من ثوابته واعتمدت مسارات جمالية ورموز مستفزة للذاكرة من جهة اخرى..
(فكرت ان امشي خارج المنزل, زرت اماكن طفولتي, عبر كل الازقة التي تبدلت, حيث البيوت تجاوزت حدود الاخلاق واستحقاقات المواطنة, وانقضت بلا رحمة او التفكير بالمستقبل الغامض لمن يتجاوز على حرمة القانون,على بقايا الممرات المضغوطة التي كنا نتخذها مساحات فرح ايام شبوبنا,عندما كانت المراهقة وقودنا الدافع نحو تكحيل خيالاتنا بوجوه الفتيات الواقفات امام ابواب المنازل, او الواقفات على سطوح البيوت الطينية يلقين الى دنيا جلبلاء نبضات قلوبهن العاطفية, غاسلات وجه النهار من الكسل المستتب,ببسمات ثغور تحاول صناعة الحب لكل شاب وسيم سيمر, يمسكن كتبهن المنهجية, ضاغطات بلذة على نهودهن لإخماد وخزة نمو الوله المتواصل في صدورهن..جربت السير بمحاذاة الوادي الكبير للبلدة, على الرصيف الترابي للشارع الرئيس المتآكل في الجانب الايسر للوادي تحديدا, ذلك الرصيف قيل ان مقاولا(لطش) الفلوس المخصصة لتعميره, سرق الفلوس نهارا وغادر من غير وجود عيون قانونية تلاحقه..)ص15ـ ص16..
فالمنتج (السارد) يشتغلُ على فضاءات متنوعة تحتضن اماكن متفاوتة تبعاً لتغير الحدث بلغة توحي ولا تصرح.. فيخلق نصا مكتنزا برؤيا وجدانية ولغة تتجاوز الحواس ومرايا اللحظة الحالمة وهي تحمل رؤاها بوعي معرفي قادر على تشخيص الواقع بموجوداته للخروج من سلطة اللحظة وتأسيس عالم متجذر بصيرورة الخيال المتداخل والرؤية الذهنية.. مع قدرة على تأويل اللغة بألفاظها ومضموناتها..
(في سجن كبير سقطت قبل ان اركل بقدم وانطلقت ككرة بسرعة البرق الى واقعي وجدت نفسي داخل الكيس قرب مزبلة أو مياه مجاري سمعت أصوات جراء خائفة قبل أن تأتي انت وتنتشلني من الضياع……………..
……………………………………………………………….
ـ الجسد الملتصق بي كان سباقا لكل فرصة سعادة, كان يؤرقه الحب, قبل ان يتحول الى حب تدمير الذات,من خلال اقتحام دهايز الانحراف..
ـ الذي اعرفه: ان الراس هو قائد مركبة الجسد. أنت تحكي عن اشياء لنقل معكوسة، ألم تقده ؟ ألم تشعره بالمزالق والمهالك المتواجدة أمام أفعاله إن كنت محقا في قولك على إنك تعلم حضارة الحياة القادمة ايضا؟
لا..لا..لا..لا تحرف الكلمة, انت اردت ان تقول مغلوطة..
ـ لا فرق بين الكلمتين..
ـ حسنا..ستناديك زوجتك الجميلة على الغداء, تذكرني حين تأكل.
ـ جميلة ؟ وهل رايتها؟
ـ الصوت الجميل ينم عن ملاحة وجه وقلب واسع ورغبات كبيرة..
ـ حسنا علي ان اذهب للمسجد، إياك أن تتصرف بشكل غير لائق,سأتصرف بجنون لو بدرت منك ما يشعر, او يشيع الهلع في المنزل..
ـ لا أحتاج لوصية, انا أكثر منك احتراسا, بعد غدائك سيشغلنا كلام طويل..)ص49ـ ص50ـ ص51..
فالمنتج (السارد) يرصدُ الظواهر واللحظات ويسلط عليها بؤرها الضوئية من أجل الكشف عن دواخلها عبر حوارٍ منولوجي ذاتي.. مع اعتماد الحكائية والنسج على ساريته بدرامية الحدث (الحركة ـ التوتر ـ الفعل) كي تمسَّ منطقة التأثير التي يلتقي فيها التفكير بالانفعال..فضلا عن انه يؤنسن الجمادات لتكون فاعلة ومتفاعلة مع الحدث.. باعتماده بناء سردي يحمل شحنات الالم المتجاوزة للزمكانية كي ينسجم والحالة الأثرية من خلال تلمس مشاهد الخراب التي طفت على سطح الواقع..لذا فهولا يعتمد الرتابة والجمود..كون شخوصه نامية ..مكتنزة بوعيها الاجتماعي وانفجار هواجسها بالحيوية والدرامية.. وهذا يعني تحقق حضورها من زوايا متعددة فتؤلف مشاهدا تمكن السارد من اقتناصها بحسه ومتابعته الذهنية للعثور على موقف يحققه لذاته بعيدا عن الشخصية .. فضلا عن انه يجسد المشاعرالخفية التي أباح بها لحظة امتلائه فكانت شهادة جزئية للغاية في فترة معينة كما يقول روجيه غارودي..
من كل هذا نستنتج ان المنتج السارد يشتغلُ على فضاءات متنوعة تبعاً لتغير الحدث بلغة توحي ولا تصرح..ليكشف عن تميز نصه ببراعته البنائية وواقعيتها مع سهولة في السرد والحكي..اضافة الى اتصاف النص بعمقه الدلالي والنفسي ولغته اليومية المختزلة بالفاظ موحية ووصف دال تمكن من ايصال الفكرة المضمونية الى ذهن المستهلك(المتلقي)..وهو يصور ما آلت اليه الحياة واختلاط القيم وهيمنة المتناقضات في تصوير عصر المفارقات.. اضافة الى تحقيق وظيفة جمالية من خلال قدرة السارد على تحريك الواقع وتفجيره من خلال الوعي والخزين المعرفي الذي يعبرعما يحسه المنتج(السارد) ويعانيه من خلال رؤياه الخالقة لعوالمها الصورية الجاذبة.. اضافة الى مزج العاطفة بالواقع لتحقيق الجمالية عبر تراكيب تخلق روحها وتطليها بجمال شفيف متفائل..منسجمة والحس الفني الذي يطرحه النص للتخفيف من حدة المأساة…(دخلت الحمام, ولحظة خلعت ملابسي سمعت نقرات خفيفة على الباب,عرفت ان زوجتي رغبت ان تشاركني الرغبة, جلست على المقعد الكونكريتي وسمحت لها العمل, غالبا ما تقوم بتدليك جسدي وتمنحني راحة جسد وقوفا كما اشتهي..) ص57…
فائدة
الرأس في النص رمز الفكر الثاقب .. القارئ للواقع بدقة والمستشرف للمستقبل..لذا فهو المستهدف من القوى الظلامية دائما.