لُغَةُ الضَّادِ في مِرْبَدِ العولَمَة صِراعٌ بين الأَصَالَةِ والمُعَاصَرَة

روژان رفيق أحمد
في زِحَامِ هذا العَصْرِ المُتَلَاطِمِ، حَيْثُ تَتَدَافَعُ أَمْواجُ الْعَوْلَمَةِ كَسَيْلٍ جَارِفٍ، تَقِفُ اللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ مُتَوَجِّسَةً، بَيْنَ إِرَادَةِ الصُّمُودِ وَإِغْرَاءِ الذَّوَبَانِ، وبَاتَتِ العَوْلَمَةُ الإِعْلَامِيَّةُ اليَومَ قِوَّةً عَاتِيَةً تَجْتَاحُ كُلَّ الْحُدُودِ مُخَلِّفَةً بَصْمَاتِهَا عَلَى لُغَاتِ العَالَمِ، وَلَعَلَّ لُغَتَنَا العَرَبِيَّةَ – لُغَةَ الضَّادِ – هِيَ الْأَكْثَرَ تَعَرُّضًا لِهَذَا الْغَزْوِ الثَّقَافِيِّ وَالإِعْلَامِيِّ، إِذْ تَتَسَلَّلُ الْمُصْطَلَحَاتُ الْأَجْنَبِيَّةُ كَلِصٍّ خَفِيفِ الظِّلِّ مُخْتَرِقَةً جُدْرَانَ هذهِ القَلْعَةِ الْحَصِينة ، فَنَجِدُ اليومَ في الْإِعْلَامُ الْمُعَاصِرُ يَفْرِضُ لُغَةً مُهَجَّنَةً تُمثِّلُ مَزِيجًا عَجِيبًا مِنَ العَرَبِيَّةِ وَالْإِنْجلِيزِيَّةِ، حَيْثُ يَخْتَلِطُ الْفُصْحَى بالدَّارِجَةِ، وَتَتَسَاقَطُ الكَلِمَاتُ الْأَجْنَبِيَّةُ كَأَوْرَاقِ الْخَرِيفِ عَلَى صَفَحَاتِ الْمَوَاقِعِ وَالْقَنَوَاتِ حتى أصْبَحَ الشَّابُّ العَرَبِيُّ يَتَحَدَّثُ بِلُغَةٍ هَجينة وَ غَرِيبَةٍ، يَمْزِجُ فِيهَا بَيْنَ لُغَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ فيقول: (لَايْكْ)، و(شَير)، و(تْرِنْدْ)، و(كُومِنتً) ،فهذِهِ الكَلِمَات غَزَتْ مَعَاجِمَنَا دُونَ اسْتِئْذَانٍ، وَأَصْبَحَتْ جُزْءًا مِنْ مُفْرَدَاتِ الشَّبَابِ الْيَوْمِيَّةِ.
وَلكِنْ بالرّغْمِ منْ هَذَا الْغَزْوِ الثَّقَافِيِّ، تَبْقَى اللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ عَصِيَّةً عَلَى الذَّوَبَانِ. فَهِيَ كَالنَّخْلَةِ الْعَتِيقَةِ الَّتِي تَنْحَنِي أَمَامَ الْعَاصِفَةِ دُونَ أَنْ تَنْكَسِرَ، وتَسْتَوْعِبُ التَّغْيِيرَ وَتُجَدِّدُ ذَاتَهَا بِرُوحِ الْمُرُونَةِ وَالْعَمَقِ.
ولا نَنْسَى أَنَّ وَسَائِلَ الْإِعْلَامِ الْحَدِيثَةَ – مِنْ يُوتِيُوبْ وَتِيكْ تُوكْ وَإِنْسْتَغْرَامْ – بَاتَتْ مَخْتَبَرًا حَقِيقِيًّا لِلُّغَةِ، حَيْثُ تَتَشَكَّلُ لُغَةٌ جَدِيدَةٌ مُخْتَلِفَةٌ. فَالْمُحْتَوَى الرَّقْمِيُّ يَخْلُقُ لُغَةً مُسْتَقِلَّةً، تَمْزِجُ بَيْنَ العَامِيَّةِ وَالْفُصْحَى وَالْكَلِمَاتِ الْأَجْنَبِيَّةِ؛ لَكِنَّ هَذَا لَيْسَ مَدْعَاةَ يَأْسٍ. بَلْ هُوَ تَحَدٍّ جَدِيدٌ تَوَاجِهُهُ اللُّغَةُ العَرَبِيَّةُ، فَالتَّغْيِيرُ لَيْسَ هَدْمًا، بَلْ هُوَ تَجْدِيدٌ وَتَطْوِيرٌ. وَكَمَا حَافَظَتِ العَرَبِيَّةُ عَلَى أَصَالَتِهَا عَبْرَ قُرُونٍ مِنَ الزَّمَنِ، فَإِنَّهَا قَادِرَةٌ عَلَى مُوَاكَبَةِ هَذَا العَصْرِ بِكُلِّ مُتَغَيِّرَاتِهِ، وَالْمَجَامِعُ اللُّغَوِيَّةُ تَعْمَلُ بِكُلِّ جِدٍّ لِتَعْرِيبِ الْمُصْطَلَحَاتِ، وَالْبَاحِثُونَ يُبْدِعُونَ فِي خَلْقِ مُفْرَدَاتٍ عَرَبِيَّةٍ تُوَاكِبُ الْعَصْرَ.
علاوَةً على ذَلِكَ لُغَتَنَا العَرَبِيَّةَ أَبْلَغُ مِن أَنْ تَسْتَسْلِمَ، فَهِيَ كَنَهْرٍ عَمِيقٍ يَسْتَوْعِبُ كُلَّ الرَّوَافِدِ، يَمْتَصُّهَا وَيُحَوِّلُهَا إِلَى طَاقَةٍ خَلَّاقَةٍ، لِذا فَلْنَحْتَفِلْ وَنَفْتَخِرُ بِلُغَةِ الضَّادِ، لُغَةِ الْإِبْدَاعِ وَالْجَمَالِ، لُغَةِ الْقُرْآنِ وَالشِّعْرِ، وَلْنُؤْمِنْ بِقُدْرَتِهَا عَلَى التَّجَدُّدِ وَالْبَقَاءِ، وَفِي هَذَا الصِّرَاعِ بَيْنَ الْأَصَالَةِ وَالْمُعَاصَرَةِ، تَتَجَلَّى عَظَمَةُ اللُّغَةِ العَرَبِيَّةِ.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة