قصة قصيرة ربما

حسين علي محمود
ذات يوم مشمس، تسطع الشمس بلونها الذهبي، وتمد جناحي أشعتها الدافئة، لتغازل أرواح الناس الملبدة بغيوم تفاصيل الحياة السقيمة، بينما سقسقة العصافير تعزف سمفونيات تتراقص معها أوراق الأشجار المتساقطة، وتعانق ألحانها مسامع الناس المتعطشة لصدى نقي مسكنا لخلجات معاناتها.
جلس بجانبه في متنزه تحت أشعتها، آملاً في أن تلتئم كل الحكايات النازفة بعد صقيع الأيام القارسة، يوخزه بقسوة ذلك الشيب الذي غزا رأسه وذقنه محطما كل خطوط الشباب الدفاعية، فوراء كل شيبة معاناة وصراعات حتى كبر ذلك الصبي، واشتد عوده في هواجع الدهر.
جوارحه تقبل يوميا ذلك الشيب المبارك، لهفة الحنين تتملكه في ماضي الطفولة الوردية، التي كان يشرب فيها من أنهار السعادة والكبرياء، لم يعرف يوما تعاسة أو قطرة دمع بين كنفيه، وما يزال ينام على همساته وأنفاسه.
يمد يده ليرتب ياقة قميصه ثم يحاول ترتيب شعره المجعد قليلا، مبتسما بينما عيناه مغرورقتان.
يحتضن بقلبه تلك الشجرة الشامخة، ليستظل بحنانها الوارف، فتمنحه من ثمارِ حكمتها دون مقابل، لا يعرف ماذا يصنع أمام هذا البحر العميق، الذي يحتضن في صمته هموم فلذات الأكباد، وينهل من مواجع الأيام صابرا كي لا يشعروا بالألم.
وعلى مر الزمن يظل واقفا، رغم الرياح والعواصف، يدثرهم بين جناحيه من غدرِ الأيام، ويزرع في قلوبهم قوة الصمود والإيمان.
يَعْلقْ بين تلك التجاعيد التي توسدت ذلك الوجه النحيل، فيبحث بين خطوطها المتعرجة عن الانسان الذي طالما حمله على كتفيه، ودار بيه من بقال الى بقال ومن مشفى الى طبيب، يعاتب بحرقة تلك التجاعيد ويلوم قسوتها التي أخذت منه ذلك الانسان من حياة شبابه، إذ كان بمثابة البحر الكبير الذي ينسج الأمل في مناجم الصعوبات، وتتكسر على شواطئه كل خيبة، وتزهر في ظله الأحلام المستحيلة.
يلفت نظره طفل صغير يلاعب فراشة بسعادة، يتبعها ببراءته محاولا مسكها
– كيف حال ابنك في المدرسة؟؟ مبتسما
– متفوق بالدراسة وعلامته مفرحة. يقولها بابتسامة حزينة ممسكاً يده
– في أي صف الآن؟؟
– السادس الابتدائي!!
تخنقه خيوط الذاكرة وتشده في عنق زجاجة الحياة، يرى كل الصور الحميمية القديمة منسوجة في جدران الذكريات.
تسوقه مرارة الواقع الى جحيم العزلة النفسية، بينما يتلوى كطفل صارخا من ظمأ الحياة الفانية، تلك الذاكرة المتذبذبة دائما ما تمطره بسيل من الدموع المتوهجة بحزن الحاضر ومثقلة بشوق الماضي البعيد.
في كل مرة تشده هذه الخيوط لتطوف به على دور الرعاية المليئة بطهارة النفس وحكمة الحياة، بعد ان أودع فيها الضالون جواهر ثمينة وجنة مقدسة، وكم من جاهل لا يعي أن عجلة العمر ستدور وتدور وتتغير المواسم، فما أن يتساقط خريف الأعمار مجردا من أحلامهم البالية، يصبحوا فريسة مكبلة لشتاء قارس بأنيابه الجائعة لعدالة الأرض والسماء، وكم سيبحثون عن دفء من حولهم، لكن سيدركون أنهم قد أصبحوا سلعة مهترئة، تخلوا عنهم بعد أن زرعوا في دواخلهم هذا الشتاء السرمدي.
الحياة كخشبة مسرح، فيها مقاعد تعج بالناس، بعضهم يصفق بحماس، وبعضهم يرقب بصمت، وآخرون ينتقدون من خلف الكواليس، وعلى تلك الخشبة، يرتدي البعض أقنعة تارة ويخلعونها تارة أخرى.
يؤدون أدوار مصالحهم المأجورة ويلهثون وراء نزواتهم الآثمة، واهمٌ من يظن أن المسرح مجرد عرض، بل هو انعكاس لكل ما نحمله في دواخلنا، صراعات بين نزوات النفس وحكمة المنطق السليم، وكل ذلك يترجم بأفعالنا وتخلينا عن أقرب الناس من حولنا، أما الجمهور أحيانا يبتسم ويصفق دون أن يفهم، وأحيانا يصمت لأنه فهم أكثر مما يجب.
وفي النهاية، حين يسدل الستار، لا يبقى سوى صدى اللحظة الأخيرة، يتردد في ذاكرة المكان ويغرق في بحر الذكريات، ليخبرنا أن الحياة ليست في التصفيق أو في الهتاف، بل في تلك اللحظات التي وقفنا فيها على الخشبة الحياة، نواجه الأضواء والظلال دون خوف.
فجأة، يصحو من غفلة هذيانه على وقع حديثه مطالبا منه أن يغادرا المتنزه، بعد أن بدأ البرد ينخر عظامه النحيلة، وما إن اقتربا من السيارة حتى أجهش بالبكاء بعد أن أراد ركوب حفيده الذي كان يداعب الفراشة في حضنه، لتسعفه الذاكرة هذه المرة بوفاة حفيده وزوجة ابنه بحادث سير قبل عشر سنوات !!

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة