شكيب كاظم
ويوم يمرض الطاهر، كان الناس يذهبون إلى دارته زرافات ووحدانا، يسلمون عليه، ويسألون عن صحته، والدموع في مآقي الطرفين، العائد والمُعاد، ذاكراً: «آه لو سمعت أسئلتهم المشوقة الى السلامة ولو شهدت زياراتهم وشهدت الدموع في مآقي فلان والدموع يمسحها فلان، والدموع تسيل ممن كنت تحسبه متماسكاً.. والأسماء أكثر من أن تحصر وأخشى أن يؤدي الحصر إلى الإساءة» ص98.
ويوم يذهب إلى عمان طلباً للشفاء في مشافيها توالت العجائب وتواشجت المكارم لا من العراقيين فقط، بل من الأردنيين والفلسطينيين، كل هذا النبل الإنساني الذي شم أريجه وضوعه، دفعه لتسطير مقالةٍ تقطر رقة ممزوجة بالأسى عنوانها (الخير كائن في الإنسان).
عزوف عن الأدب
وكثيراً ما سئلت لماذا عزف الناس عن الأدب وقل اهتمامهم به وبالقراءة، فكنت أجيب، حينما لمس القراء والقارئات- وهم أذكياء- إن بعض الكتاب ما كان صادقاً معهم، وإنه باع قلمه فإنهم تركوه وراءهم ظهريا، ولقد لمست مصداق رأيي هذا ولا أقول – احتراماً لأستاذي- لا أقول صدى ذلك في مقالة عنوانها (الأدب… والرياضة البدنية) متناولاً أسباب صدود الناس عن الأدب، وتوقهم الى الرياضة أو أمور الحياة الأخرى، ويأتي جواب الطاهر: «إذا صدّ عني، صددت عنه (…) لأني لا أرى فيه فائدة ولا أتلقى منه متعة هو كلام في كلام، قد يكون منمقاً ولكن في فراغ (…) ولن يُعنى الناسُ بالأدب (…) ما لم يعن الأدبُ بالناس… هذه هي النتيجة… وهي من البداهة بمكان مرموق، يراها الناس ولا يراها الأدباء أنفسهم- فأسفي عليهم حتى يعودوا إلى الجادة.
أي أدباء العصر كان أجدادكم اقرب الى الإنسان» ص104.
ويتساءل الناقد المعروف الدكتور علي جواد الطاهر في مقال له عن الذي يسميه (الشعر المنثور) موالياً التسمية القديمة التي ظهرت بداية القرن العشرين، عما تعورف عليها في عقود تلت بـ (قصيدة النثر)، أو (النثر المهموس) كما يصفه الناقد المصري محمد مندور (1965) هذا اللون التعبيري الذي زاوله الأديب والصحفي العراقي روفائيل بطي(1956) فضلاً عن البير أديب (1985) صاحب مجلة (الأديب) اللبنانية في ديوانه اليتيم! (لمن؟) وأمين الريحاني (1940) الذي يترجم عديد قصائد الشاعر الأمريكي المعروف (ولت وتمن) في ديوانه الشهير (أوراق العشب) ولا أعرف كيف تكون للعشب أوراق؟! ويرسل إضمامة من هذا الشعر المنثور الى جرجي زيدان، صاحب مجلة (الهلال) ومؤسسها فينشره وإلى يعقوب صروف، صاحب (المقتطف) قائلاً له: «إليك بالقصيدتين اللتين ترجمتهما شعراً منثوراً (…)
فرية الرنات والإيقاع الداخلي!
لا يخفى على من يحسن نظم الشعر المنثور إن له رنات وأوزاناً خاصة به ولكنه لا يتقيد بالأوزان والقوافي المدرسية المطردة التقليدية» ص115، لكن هذا اللون التعبيري يتعثر ويخفق ويضمر على الرغم من الصفات التي نعته بها أمين الريحاني من أن له رنات وأوزاناً خاصة به، وهو ما أطلقه بعضهم على ما سميت بـ (قصيدة النثر) أنها تمتاز بإيقاع داخلي، وهي فرية لا تكاد تقف على قدميها، ولا وجود لها إلا في مخيلة من أطلق هذا الوصف على قصيدة النثر، وإذ لا ينفي الدكتور الطاهر وجود الرنات الخاصة في الشعر المنثور، لكنه يقرنها بموهبة من يزاول هذا الشعر الجديد، أي أن يكون شاعراً أولاً في تكوينه، أي خلق شاعراً، وإلا عاد أي كلام يزاوله من لم يُحْبَ بموهبة الشعر، عاد كلاماً من الكلام اليومي، ولا ينفعه ما يدخله عليه من رنات يتصورها، أما لماذا نجح ولت وتمن وفشل آخرون فلأن ولت وتمن شاعر؟ أما أمين الريحاني وغيره ممن كتب في هذا اللون، وجعلوا منها حركة محدودة المدى قصيرة العمر، ينظر إليها كمن ينظر إلى مولود خديج يموت، فإن قناعة الطاهر إن السبب يكمن في أن الريحاني لم يكن شاعراً، فهو رجل كتابة فقط، يوصل فكرة أو خبراً لا يبلغ أن يكون فنياً من طراز عالٍ مهما جدّ صاحبه وكد فكيف هو بإدراك الرنات الخاصة؟!
وإذ قلت آنفاً إن الدكتور الطاهر لا ينفي الرنات الخاصة في الشعر المنثور، فإنه هنا يرتاب في وجودها ويشك، لأن من كان هذا شأنه فقراً في الشعر والشاعرية، فكيف له أن يدرك الرنات الخاصة، أو الإيقاع الداخلي الهلامي الهيولي غير الموجود أصلاً؟!
ويكون مسك ختام مقاله هذا الذي وسمه بـ (لِمَ أخفق الشعر المنثور؟) دامغاً لمدعي الشعر مخاطباً إياهم: «وقل مثل ذلك في جملة السائرين في ركاب الريحاني وهم يرون أنفسهم شعراء ولا يراهم غيرهم كذلك، ويرون ما ينحتونه شعراً منثوراً، ويرى الآخرون النثر المستثقل، ولا يرون الشعر. إلا أن في إخفاق «الشعر المنثور» عبرة لمن اعتبر، وقياساً لمن يقيس». ص117.