«من بابل إلى الرايخ»..
متابعة ـ الصباح الجديد:
مع التقدم بصفحات العمل نجد بطلنا آرام عاجزا عن الاندماج في المجتمع الألماني، فهو بالمرتبة الأولى «بدوي ابن ريف مجبول بالقمح والشعير»، ويذهب أبعد من ذلك ليشعر بنفسه هاربا من «البعثية» إلى «النازية»، على حد تعبير الكاتب.
رواية «من بابل إلى الرايخ» للروائي السوري محمد صالح عبيدو صدرت عن دار ببلومانيا بالقاهرة في 160 صفحة (مواقع التواصل)
حيث منبع الحضارات، ومصب الحقائق، البساطة المعقدة، الطبيعة السمراء، والتربة الحمراء.
يسير ذلك المشتت بخطى مترنحة، وملامح تشبه الموتى! منهكا، هزيلا، بالكاد يجر خلفه ظله.
ينظر بكل خلايا جسده، وكأنها أعين محدقة كدوامات النهر الذي يمشي على ضفافه..
وكأنه يحمل على متنه الحقيقة التي أثقلت كاهله..
وكاهل كل من سيأتي بعده
على وقع هذه الكلمات ينفتح السرد في رواية «من بابل إلى الرايخ» للروائي السوري محمد صالح عبيدو، وهي كلمات ترددها شخصية عابرة دفنت منذ قليل مخطوطا أثريا ذا أثر سحري في أحد حقول الجزيرة السورية، ويبقى صدى تلك الكلمات وما مهدت له كهاجس للراوي وروايته التي ستمتد إلى 160 صفحة من القطع المتوسط.
وإلى جانب العناية الكبيرة التي يوليها عبيدو للشكل الفني والحبكة الروائية في الرواية الصادرة عن دار ببلومانيا بالقاهرة، ينجح الروائي الشاب في تسليط الضوء على قضايا ومسائل كانت في غياهب المسكوت عنه ردحا من الزمن في الجزيرة السورية (الفراتية)؛ كسياسات الإفقار الممنهجة لمدن الجزيرة، وسرقة آثارها التي تعود إلى حضارات ما قبل التاريخ، فضلا عن قضايا ومسائل معاصرة كانعكاسات الحرب في تلك المدن وتبعاتها على الشباب السوري من خلال بطله الشاب العشريني «آرام».
حسكة غنية وشعب فقير
تبدأ أحداث الرواية من الحسكة، المحافظة والمدينة السورية الغنية بالنفط وبالنسيج الثقافي والإثني المتنوع لسكانها، حيث آرام مسترخ تحت ظل شجرة وارف في أحد حقول بلدته رأس العين، ولكن مع استدعائه لذكرى انفصاله عن حبيبته «ميديا» نجده قد هبّ غاضبا ليمسك بالفأس القابع إلى يمينه ويضرب الأرض بكل ما أوتي من قوة، وإذ بالفأس يرتطم بسطح قاس، ينبش آرام التربة فيجد صندوقا مزخرفا قديما، فيرتبك ثم يستدرك ويحمل الصندوق ويجري.
حدث سيقلب حياة الشاب العشريني رأسا على عقب، لا سيما بعد اجتماعه بصديقيه سومر وعزرا وفتحهم الصندوق واكتشافهم مخطوطة أثرية بداخله، ليقيّم عزرا ثمن تلك المخطوطة بملايين الدولارات معتمدا على خبرته الأكاديمية في علم الآثار.
ومن التشويق الذي تولده تلك الأحداث التي تنسج أولى خيوط الحبكة في رواية «من بابل إلى الرايخ»، ينقلنا عبيدو إلى العمق السياسي والاجتماعي لشخوصه الثلاثة: آرام وسومر وعزرا، وهم شبان سوريون سُدّت آفاق المستقبل في وجوههم مع اندلاع الحرب في بلدهم، ورغم أن الثلاثة لا يطيقون فراق الحسكة التي شبّوا في رحاب حقولها الصفراء وعلى ضفاف نهرها الدافق، فإن عزرا يلخص حالهم بقوله «عندما يكون الوطن حقل ألغام، والحاكم فزاعة، فمن الطبيعي أن تهاجر الطيور»، فكان بذلك قرار هجرتهم إلى أوروبا حيث سيبيعون تلك المخطوطة ويعيشون أغنياء إلى الأبد!
هي مفارقة كبرى؛ إذ يهاجر الشباب من أثرى المدن بالنفط ليصبحوا أغنياء! وعن تلك المفارقة يحكي عبيدو للجزيرة نت «كما يقول ابن خلدون: الفقر يولد الجهل. وقد أرادوا من هذا التهميش الممنهج لمدينة الحسكة أن يبقى تفكير أبناء المحافظة محصورا ضمن لقمة عيشهم فقط، ليضمن ذلك عدم التطلع إلى ثرواتها التي تذهب إلى الطغمة الحاكمة».
ولأن الثروات تذهب إلى الطغمة الحاكمة فكان لزاما على الأصدقاء الثلاثة أن يبحثوا عن سبيل آخر لرزقهم، وأن يشقوا طريقهم من بلدة «تل حلف» الواقعة غربي مدينة رأس العين باتجاه مدينة أكسراي التركية، متطلعين بعد ذلك إلى أوروبا التي لا بد ستتلقف مخطوطتهم.
ثمة قاتل.. وناج وحيد
يتساقط أبطال حكايتنا واحدا تلو الآخر بطريقة لا يفهمها آرام، فها هما يوسف -الشاب الذي التقوا به في تركيا- وسومر قد قضيا على يد مافيا تركية حاولت سرقة المخطوط، أما آرام وعزرا فقد قررا النجاة بروحيهما والمخطوط إلى أوروبا. ومن أزمير يركبان قاربا مطاطيا (بلم) يشاركهما فيه عشرات الناس، لكن الرحلة لا تمضي بسلام إذ يبدأ القارب بالغرق وسط المحيط ويموت كل من على متنه ومن بينهم عزرا، أما آرام فيستطيع النجاة بنفسه لمهارته في السباحة.
ومن الجزيرة اليونانية إلى ألمانيا، يعود بنا الراوي إلى المسائل الواقعية التي عانى منها السوريون؛ فنرى الناجي الوحيد (آرام) يمثل أمام محكمة اللجوء محدثا القاضي عن أسباب هروبه من وطنه الأم، «سيدي القاضي، أنا من محافظة الحسكة، أنا من مدينة تملك ثلثي ثروة سوريا، وأهلها ما زالوا يعيشون تحت خط الفقر في منازل من طين. سيدي لقد تعرضنا للقمع الممنهج؛ ثقافة وتاريخا وحضارة، أنا يا سيدي من بلاد ينتقل الحكم فيها عن طريق الأجهزة التناسلية ومن دون واق سياسي».
ومع التقدم بصفحات العمل، نجد بطلنا آرام عاجزا عن الاندماج في المجتمع الألماني، فهو بالمرتبة الأولى «بدوي ابن ريف مجبول بالقمح والشعير»، ويذهب أبعد من ذلك ليشعر بنفسه هاربا من «البعثية» إلى «النازية»، على حد تعبير الكاتب. وعن صعوبة الاندماج هذه يحكي عبيدو للجزيرة نت «عمد البعث إلى عزل المنطقة الشرقية، فقد أصبح أبناؤها شبه معزولين حتى عن بقية مناطق الداخل السوري، فكيف بهم في دول المغترب؟».
وهكذا يتحول حلم الثراء إلى عبث يعيشه بطلنا آرام، وفراغ يشعر به تحت وطأة الاغتراب في بلد جديد، ولكن يبقى السؤال: ما مصير المخطوط؟
السرد والأسطورة
ويلبس السرد في «من بابل إلى الرايخ» لبوس الأساطير في حضارات منطقة الجزيرة السورية كالحضارتين السومرية والبابلية؛ فنجد النص موزعا في بعض المقاطع السردية إلى جمل نثرية قصيرة كتلك التي نقرؤها في ملحمة الإنوما إيليش البابلية أو ملحمة جلجامش السومرية.
وإضافة إلى شكل الملاحم الأسطورية يأتي مضمون تلك الجمل النثرية مضمونا تأمليا وجوديا بموضوعات كالمرأة والحب والوطن، فيقول آرام لحظة تطأ قدماه مغتربه الأول تركيا