نصير الشيخ
ـــ ترى هل تتيح لنا الكتابة مساحة القبض على ما نريد من أشياء ومعانٍ في هذه الحياة..؟
وهل تبقى الكتابة حقل أمنياتِ لزروع تسامقت في أرواحنا وذواتنا وأحلامنا قبل تسطيرها على الورق؟ أم أن الكتابة هي أصلاً حقل أينع، نظل نحن كادحي الكتابة والحلم بانتظار قطاف ما زرعنا، وتأمل حساب بيدر حصاد أعمارنا.
والقصة القصيرة جدا هي جنس أدبي ساعٍ لتدوين الواقع عبر التقاطاته الذكية، أحداثاً وشخوصاً ومفارقات، محتفظة بنفس الوقت بدفق المشاعر الإنسانية التي يتكفل السرد والقص بصوغ كتابتها، والكاتب القاص يستجلب عوالمه المنبثقة من تماسهِ مع حافات الواقع ومديات الحياة وتحولاتها التي يحياها.
و» بئر برهوت / قصص قصيرة جدا» للكاتب «جابر محمد جابر» والصادرة حديثا عن منشورات» بعل» دمشق/سوريا. هي إضمامة قصص ملتقطة من واقع محيط بذات الكاتب، حاول تدوينه مشهداً بمشهد ضمن إطار تأريخي كرنولوجي لإدراجه على سكة الإحداث المتسارعة ومن ثم ختمه بختم الزمن الذي كتبت فيه هذا القصص القصيرة جدا. الكاتب هنا برع في التقاط الواقع العراقي المحتدم ومفارقاته ورصد بلغة مبسطة التحولات المجتمعية التي مست قيماً متأصلة لمرحلة ما بعد التغيير2003،ذلك بسبب تسرب جملة عوامل وثقافات قطعت النسيج المجتمعي. كلها جاءت برصد عميق من الكاتب، منطلقا من ذاته وهي تخوض صراعها مع هذه التحولات كون الذات المبدعة تتحسس دفق الأشياء وتتلوى بتشويه المعنى.
في قصة « السهم الطائش» ص9 (( اليوم أعلنت الحداد على أيامي القادمة، أيامي التي أصابها الخرس او تلك التي لم تأتِ بعد، لن أسمح لدمي أن يصطاده الغرباء..!!)) هذا المنطوق بصيغة المتكلم هو صوت الإنسان في مواجهة ذاته ومواجهة مرايا الواقع المضببة حيناً والمهشمة حيناً آخر. في حين شكلت قصة « قصص فاضحة» ص10،تداخلا ضمنياً بين ذات الكاتب وذاتاً أخرى ساردة، وهما يتبادلان كتابة قصة، هنا يبرز صراع الذات مع الآخر بمختلف وجوههِ، صراع يؤدي فيما بعد الى الركون صمتا، ومن ثم عدم تدوين ما تضج به روح الكاتب. في حين كانت قصة «لص» ص12،تكثيفاً دلالياً لجدلية تمس حياتنا، وأخذت من اعمارنا الكثير تلك هي جدلية الحب والحرب..(( قال له: لم سرقت حرف الباء ولم تسرق حرف الراء..على الأقل لتبقى كلمة حب…؟
أجابه الطالب دون أن يرفع رأسه..وما فائدة الحب في زمن أغبر..!!)).
ولأن الكاتب عين تبصرُ مشهدية الواقع، وتمد إشعاعها في الدروب والأزقة لتلتقط أسرار المدينة وحيوات الناس، فقد شكلت شخصية « خضير أبو الثلج» انموذجا لتحولات الأفكار وانهيار منظومتها القيمية، وبالتالي يصبح القص هنا قلباً للواقع برمته، وإدانة واضحة لما آل اليه الفكر وفلسفة الإنسان المثقف حين تسحقه تروس الواقع الضاغط، عبر شخصية» خضير» طالب الفلسفة..!! واختزاله عمراً بأكمله من القراءات والبحث عن معنى الحياة بين سطور الكتب، ليخلص لنا بجملة مختزلة للفهم مع الآخر العابر دوما (( متوفر صيفا فقط…ثلج بارد جدا )).وثمة سؤال يراودنا هنا، وهل يكون إلا الثلج بارداً..؟ لكنها لغة التهكم وحوارية السوق وأخلاقيات الشارع التي أستبدلت رثاثتها ببلاغة الكتب الفلسفية والوجودية. وكأن حال المؤلف جابر محمد جابر يقول لنا: ما نكتب نحن تعبيرا عن واقعنا، حتى الكلمات المهذبة تعجز عن وصفهِ، لأن الوصف مثلما تعلمنا في كتب الأدب هو بلاغة لغة، لكن هنا الرثاثة تستطيل، فأي لغة نقترح للتعبير.
ثيمة عالية القص تضمنتها قصة « الولد الذي تحول صقرا» ص62، على مستوى التشكيل الدلالي، ذلك أن الكتابة تمدنا بشفراتها حاملة رسالتها الإنسانية، وما الطائر الجميل شخصية القصة الا معادلا موضوعيا ضد قوى القبح التي تمثلها «الغربان» وصورها المشؤومة والقارة في المرويات الأدبية والتراثية والشعبية!! ليظل الطائر هنا، ممثلاً لروح الحياة ودفق الوطن والانتماء عن صورة الأب المتوفي.. وامتلاكه القدرة على ان يكون وان يشحذ إرادته الحرة بالتحول الى «صقر» لمواجهة عبث الغربان عند قبر أبيه ..((لم يتسلل اليأس الى روحه، بل مارس حريته في التحدي لأكثر من مرة، حتى أتته فكرة ان يتحول الى صقر ويواجه غربان الشر)).
تنوعت المساحة الكتابة في المجموعة القصصية (( بئر برهوت)) للكاتب جابر محمد جابر، فكانت هناك اشتغالات تدوينية بالغة التكثيف مثلتها قصص (( الشهداء يغادرون أحيانا/ آخر حلم/ مطر مدرار)) أخذت الواقعية النسغ التعبيري في كتابتها، ومثلت صور شخوص وذواتٍ مسحوقة تحت عجلة الواقع الضاغط مرة، ومرة بانَ انسحاقها بفعل إفرازات السياسات القهرية لهذي البلاد، قصص جاءت تحت إطار الاختزال اللغوي وبحس قصصي راسما مشهدية بالغة التأثير في الدلالة والمعنى..وبالتالي أكدت شهادتها ووثقت الأزمنة المرّة لحيواتِ اناس يبغون عيشاً رغيداً على مساحة الوطن وضمن فضاء الحرية.
لحظة تدوين النص القصصي لدى الكاتب جابر محمد جابر نمسك أسلوبيا، القدرة لديه على الوضوح، الوضوح الكاشف للباطن من تراكمات واقعٍ عراقي مثقلٍ بالكثير من الإحباطات والمشاكل وغياب ستراتيجيات الحلول المستقبلية. وضوح لا يخل بقدرة القص ولا يذهب الى « المباشرة» في التدوين إخباريا، لكن الذي يحصل وفي اكثر من قصة هو ثقل « الإسقاط» الداخلي لذات الكاتب لحظة تدوينها الفكرة وإنشاء أطارها السردي، وهنا تخرج بنا من كونها عملا فنياً له ضوابطه الإبداعية وتأثيره الجمالي الذي لا تحيد عنه الفنون والآداب، الى « موضوع إنشائي» يصب كثافة تعبيرية بصوتها الغاضب!! إن سمح القول.. ولنا في نماذج القصص التالية ما سبق القول (( رصاصة قناص/خيبة الشهادة/الصعود بلا سلالم/أم عمار..)).
الكاتب آثر تدوين قصصه القصيرة جدا بلغة بالغة الوضوح، معتمداً الجمل الموحية الحاملة لأكثر من معنى، مستخلصا قاموسه القصصي من المواقف الحياتية التي اندغمت في لغته، صارخة بكثافة الوجع العراقي، متخففاً من اللغة الشعرية التي كانت ولازالت عنصراً متداخلاً في معظم الأعمال السردية، قصصية كانت أم روائية.
(( بئر برهوت))..عنوان المجموعة القصصية القصيرة جدا.. وعنوان القصة في الصفحة 76، هذا المكان القار في الذاكرة التاريخية حاملا عمقه الجغرافي ،والذي جاء التعريف به على لسان الصحفي الذي طلب منه رئيس التحرير عمل تقرير استقصائي صحفي عنه (( أنه بئر جهنم/ البئر السوداء.. تسكنه الأفاعي والطيور الغريبة/ عمقه 375 قدم/ يقع قرب محافظة الحيرة/ في بلاد اليمن))..أنتهى.
بعد هذه المعلومات الجغرافية التي قدمتها لنا هذه القصة، وبعد تجوالنا في المتن الكتابي للقصص داخل المجموعة، أين يمكننا العثور على « بئر برهوت» وإن عرفنا حدوده الجغرافية عبر النص القصصي اعلاه، كيف نمسك بالمعطيات الفكرية والدلالية التي تتمظهر لنا، ونحن نتساوق مع جملة الأحداث وحركية شخوصها، وتدرجات مسار الحياة العراقية ومن ثم تحولاتها.
فهل من « رمزية» استخدمها الكاتب في العنونة « بئر برهوت» مكاناً ودلالة ورمزاً،وهل كان متن المجموعة القصصية هو مساحة التوصيف للبئر/ جهنم ــ أفاعي ــ طيور غريبة ــ عمق سحيق…./ هذه المثابات المرعبة هل هي مساحة الواقع العراقي وعمقه السحيق،هكذا أراد أخبارنا جابر محمد جابر، وأن الهوة التي نحن فيها تشابهُ عمق البئر وعوالمه العجيبة، وما أرتكاس البنية الاجتماعية وتحولاتها الفوضوية إلا صورة مقارنة لعوالم البئر وهوتهِ السحيقة.