القسم الأول .. دراسة
ناجح المعموري
الماء احد الانماط العليا في علم النفس اليونغي . وهو ايضا احد عناصر نظرية الخيال الباشلاري ولفضاء الدلالة المتسع والعميق ذهب اليه الشاعر مهدي القريشي ، واصطاد طاقة الشعر في فضاءات الماء بالحياة والموجودات . ولا يمكن تجاهل حضور الفاعل الموجود بالموجود . ولا تستمر الكينونة الطاقة الممنوحة للوجود بمعزل عن الماء ، بوصفه روحاً للكائن واجمل المياه هي التي في الصلب والترائب ، وتسجل بتدفقها شكلاً من استمرار الفعل المعني بالكائن او الموجود ، كما انه يضفي سعة الانفتاح على الرمزية المتسامية التي تغذت بها الاساطير وتحول الماء حلماً بالنسبة للإلهة التي كان الانبعاث احد وظائفها . ولابد من التذكير بالأسطورة السومرية قبل الذهاب نحو تعدد المعاني والدلالات الطافية به وفيه ومن هذا التصور التخيلي تبلورت حساسيته في الحياة والعالم لذا انا اعتقد بأنه احد اعظم الانماط العليا التي ما زالت كامنة في اعماق كل شيء ، وطافية فوق السطوح . فالإله انكي هو الذي وقف على ضفة الفرات وابتدأ ينزو بوصفه ثوراً حتى امتلأ الفرات بمائه العذب الفرات ، وظلت سيرورته المتدفقة لحظة تحوله الى دجلة وعاود الفعل ايضا ، وامتلأ دجلة ماء زلالاً . هكذا امتلأ العراق ماء وكان منذ لحظة الخلق والتكوين . هذا ما اشارت له اسطورة الام السومرية ننخرساك في اسطورة الخلق وحتماً دلالة الماء في ديوان القريشي متنوعة وعميقة ، المعروف منها محدود ومعلوم بعيداً عن التفاصيل المعروفة الكامنة في اساطير الشرق . والمتباينة عن بعضها الاخر ، لكنها معاً تفضي عن تكون وتجدد مثلما تعني انبعاثاً وخصباً . وما يثير في العنونة التي اختارها الشاعر مهدي القريشي هو مسحة الشيخوخة التي شف عنها العنوان ، لكنها اشارة تعني تخيلاً فيه بلاغة تشارك الريح او الهواء مع الماء . وتبدو ازدواج المجاورة بين الهواء / الريح والماء ، فالأول نمط ثان من الانماط واذا كان ريحاً فهو رمز فحولي وفالوس ادخال وكلاهما يمنحان رمزية الماء تشاكلاً مع تخيّل تبتكره الذاكرة واعني به الانثى . ويتجاور الاثنان ، ولا يفترقان منذ الازل وحتى الابد ، ويومئان للثنائية المعروفة المصطفة مع بعضها الاخر ويتداخل الماءان ، ماء الرجل وماء الانثى ، وكلاهما يبللان الجسد ويكتبان عليه وفيه وفعل الكتابة اتصال وحفريات الكتابة ادخال على البياض وهو جزء من وجود ولها بديل الجسدي الحقيقي الراضي بالغرق ، لأنه في مثل هذه الفوضى التي تعم المكان ، تتبدّى عن الروح الغائبة والهائمة ، الراعشة ، الراجفة ، تجاعيد الماء شباب ، ولذائذ شيخوخة ، ملامسه الهواء السطح الماء المرتفع والمهدد بالطوفان ، وغرق جميل ، يناديه الفحل وتهلل له الانثى . الماء ذكورة نازلة . وحضور واسع جداً في الميثولوجيا السومرية والاغريقية والرومانية .
تتسع العنونة وتتعمق وتمتد في الميثولوجيات ، والعلوم الانسانية طوافة فيه وعليه ، تجاعيد الماء لا تفضي الى شيخوخة حاضنة لاثار الزمن ، بل سباحة الهواء / الريح ، الرمز القضيبي فوق السطح . ايها الجنوب / لست وهما / ولا كائناً افتراضياً ولا غيمة تائهة تنقرها الريح بمخالبها / ولكني اجزم / ان سريرك الوثير ما عاد ينفع لعبث قيلولة اللغة / والمقابر ورثة العدم .
” الجنوب ” نص مكتوب عن تجربة غير معاشة ، بل معروفة في الفلسفة . اعتقد بانها تجربة ” نيتشة ” وعلاقته مع الجنوب وشعائر حضور الضوء وتأدية الرقص والاستماع للموسيقى الحياة في الجنوب فيضان اللغة التي تمسك بالتدوين مثلما تحافظ على الممحاة .
الاشارات عديدة الدالة على السيرة الذاتية لنيتشة . وخصوصاً علاقته مع الجنوب وجنونه الهادئ وهو يتجول في اماكن جماله ويستمع الموسيقى ويرقص ، الشعر تمظهر للموسيقى والاخيرة تدفقات الحركة المنتظمة . الجنوب ، كل جنوب هو طقوس وضوء ، ولم يعرف نيتشه الضوء الا في الجنوب ” نحن بحاجة الى الجنوب . وبأي ثمن . نحن بحاجة الى نبرات صافية ، وبريئة ، وفرحة ، ورقيقة ” هذا ما قاله نيتشه الذي وجد في الجنوب حضوراً لزرادشت والذي لازمه حتى النهاية . كلما يستيقظ الجنوب / تقطع من صياحاته اغاني الرب / وتسرق من اصابعه قصب الموسيقى / وتثلم من جدار ذكرته . قفزة لص /ص 30//
**********************
تشف عنونة ” تجاعيد الماء ” عن حضور غنائي واضح ، يلف معه شعرية اللغة والصورة التي قال عنها هايدجر هي التي ترينا ما لم نره في اليومي . صورة حاضرة ، وغائبة ، لم نرها من قبل ، تشدنا بقوتها الكامنة باللغة . عنونة الماء صورة زمنة / تجاعيده ، شيخوخة ، وهو شباب ايضا ومثلما قال باشلار : الماء سيد اللغة السائلة ، اللغة غير المتعثرة ، اللغة المتواصلة اللغة التي تجعل الايقاع منسابا ، التي تمنح الايقاعات المختلفة ، المادة المتجانسة ، اذا لن نتردد في اعطاء معناها الكامل للتعبير الذي يفصح عن نوعية شعر سائل ومفعل ، شعر يجري من ينبوع .