الخروج من الإطار المحدد في “مطرٌ صاعدٌ إلى السماء”

يوسف عبود جويعد 

بناء القصيدة الشعرية في مجموعة (مطر صاعد إلى السماء) للشاعر منذر عبد الحر، تشير إلى وجود دروب وثيمات وأفكار، تضعنا أمام المهام المتعددة للشاعر، وهو يقوم بصناعة قصيدته، إذ إننا وبعد متابعتنا للعالم الشعري في هذه النصوص سوف نكتشف بأنها خرجت من الأطر المحددة، التي يعتمدها الشاعر، مثل التداعيات الذاتية المحددة، والمشاعر قصيرة المدى إذا صح التعبير، والعلاقات العاطفية التي تجمع بين المرأة والرجل بكل أنواعها اللقاء، الاشتياق، الفراق، انتظار الحبيبة، وأمور أخرى تعودنا على متابعتها، في نصوص شعرية أخرى، أما ما سوف نكتشفه فهو أكبر وأسمى وأهم، لأنها وأقصد بذلك هذه المجموعة الشعرية، فتلك النصوص وبحكم الخبرة الطويلة للشاعر يحمل على عاتقه مهام شعرية حسية إنسانية كبيرة، تشبه إلى حد بعيد من يمهد الأرض الجدباء اليابسة ويهيئُها ويعدها لتكون أرضاً خصبة تصلح لأن يعيش فيها الإنسان بكل حب وود وبسلام وآمان، حتى يستطيع أن يمارس دوره في كتابة الشعر سالف الذكر، وذلك بسبب الخراب الذي ساد أرض المعمورة والحروب التي اشتعلت لتحرق الأخضر واليابس، وفقدان الكثير من القيم والمبادئ التي يجب أن تعاد إلى مكانها الطبيعي، ومن هنا نعرف أن نضوج القصيدة ونضوج الوعي ومتابعة تقلبات الحياة تقتضي من الشاعر أن يعتلي صهوة جواده، ويتسلح بمشاعر يستطيع فيها مواجهة هذا الخراب الذي يشبه الإعصار المجنون الذي يريد أن يشوه كل معالم الجمال ويقتل داخل الإنسان رغبته في الحياة القويمة السليمة وأن يطوع أحاسيسه الشعرية المتوهجة لتكون أداة لمحاربة هذا الزحف المختلف، وهي محاولة موفقة من الشاعر لنكران الذات والانسلاخ من هذه النرجسية لحب الذات والتغني بها في عالم الشعر، إلى مساحة أكثر رحابة وأوسع مما هو ضيق ومغلق، إذ يجد الشاعر أن الضرورة ملحة للدخول في هذا المضمار، من أجل أن يواكب الشعر حركة الحياة ويقف مدافعاً على معالم الجمال فيها، ونبذ القبح، وهذا ما سوف نتابعه ونحن نمر على قصائد هذه المجموعة الشعرية، وفي قصيدة (أصدقائي) يضعنا الشاعر بلغة شعرية واضحة المعالم، بسيطة سهلة خفيفة الانزياح وبصور متراكبة متدفقة خصبة تحمل روح المفردة الشعرية وجمالها ورشاقتها وقوتها دون تكلف، واستعارات شعرية تدخل ضمن مسار النص، يضعنا بين عالمين عالم الفقر وعالم الثراء، لأننا سنتابع حياة الفقير والتفاصيل التي تدخل ضمن يومياته وهمومه، وكذلك الثري الذي يضعه الشاعر على نقيض ذلك من أجل تذكير الصديق الثري، أن حياة الفقير رغم صعوبتها إلا أنها أكثر سعادة وهناءً من هموم جمع المال:

أصدقائي

* الأثرياء

أصدقائي الأثرياء

ضعوا ثرواتكم

وكنوزكم

وكل ما يمكن أن يطمع به فقير مثلي

ضعوها جانباً

وتعالوا أسمعكم آخر نكتة

أضحكوا …

الضحك مجانيّ

ونحن الفقراء

نجيد صناعته

تعالوا معي

لن تثلم صحبتي ثرواتكم

وهكذا يتّضح لنا تلك المساحة التي خرج لها الشاعر من دائرة المشاعر الضيقة إلى عالم أرحب، وهكذا نتابع محاسن الفقر، ومساوئ الثراء، وهو يصف لنا هذا الفقر:

* الفقراء

أصدقائي الفقراء…

عشاق..

حالمون

يطيرون بأجنحة الغناء

فراشات بين زهور المعنى

هم…

أكثر ثراءً

من تجّار السيارات

ومقاولي الدم

أصدقائي الفقراء

لا يضحكون كذباً

ولا يرون في العالم 

إلا الحبّ..

عائماً كسفينة من عطر

نهرها عذابٌ مقدسٌ

وشراعها .. لوعةٌ تبث قصائد

أما قصيدة (أيها الغدُ.. قف بعيداً) فإنها رحلة نحو غد مجهول، لا يريده أن يصل لأن الحياة تسير من سيٍّئ إلى أسوأ، وقد يحمل هذا الغد ما هو مخيف ومفزع:

أيها الغدُ.. قفْ بعيداً

عرباتكَ ندمٌ

محطاتُكَ فزعٌ

وطريقك أنين….

أيها الغد

أيها الشامت بحطام أيامنا

الضاحك من فتوحات أمنياتنا

لا تأت…

دعنا ننام طويلاً

حالمين بجنان

ومراكب صيد وكنوز

وحوريات…

لا تأتِ..

يكفيك أن تنظر إلى ساعاتنا

إلى ملامحنا

وهكذا تتّضح لنا الرؤية الفنية التي اتخذها الشاعر في صناعة قصيدته الخارجة من الذات والأنا والنرجسية إلى ما هو أسمى وأكبر، فعندما يكبر الشعر تكبر معه المشاعر والأحاسيس لتشارك الناس حياتهم اليومية، أما قصيدة (لا تكن شبيهي تماماً) وهي مهداة إلى ولده مطاع في عيد ميلاده، وهي تحمل الكثير من الأسى والحزن والمعاناة التي عاشها الأب ولا يريد لأبنه أن يكون شبيهه، وعليه أن يختار طريقاً آخر حتى لا تتكرر تلك الرحلة المحفوفة بالتعب، كما نلاحظ ومن خلال متابعتنا لنصوص الشاعر منذر عبد الحر أن بنية العنونة مدخلاً لمتن النص وعتبة نصية مكملة لا بد المرور من خلالها:

وأنت تدخل عامكَ الجديد

تأكد يا ولدي…

أن الحياةَ ليستْ أرجوحةٌ

شوطها الصاعد : بهجةٌ

وشوطها النازل: عناءٌ

تأكد…

أن ما يفرحُكَ اليوم

سيكون غداً

فراشة جافةٌ على ورقة بليدة

لا تفتح ضماد حياتي

فتسيل عليكَ نجوم محنتي

لا.. غنمٌ عندي

أهش عليها بعصاي

وتمضي هذه القصيدة بهذا الحس الشعري، الذي هو مزيج من رحلة تعب ومعاناة كبيرة، وكذلك هي تذكير من الأب للابن أن يعيش وهو لا يشبهه. اعتمد الشاعر في صياغة قصيدته الشعرية على المفردة البسيطة السهلة التي تشبه السهل الممتنع لكنها تحمل بين ثناياها شحنة كبيرة من الحس الشعري المتدفق والمشاعر المتوهجة

وفي قصيدة (رسالة من السياب إلى محمود درويش) تتسع دائرة تلك الاهتمامات الكبيرة لنكون مع محاورة مركبة من السياب الذي ينوب عن وطنه العراق ليناجي الشاعر الفلسطيني محمود درويش، مشيداً بدوره المشرف في الذود عن حمى الوطن المسلوب:

من نخلة الأوجاع

أبعثُ شهقة

تغدو نداء يغرس الرايات

في أرض الضياع

وإليك يا محمود باقة نرجس

من عاشق للصبر

أدمنه الوداع

هيا معي

لنريق أسئلة ونفتح

للصباحات الشراعْ

الآن يا درويش قد سقط القناع

وتبدّت العورات

في الذل بلغ النخاع

وتمضي هذه القصيدة بلغتها الشعرية نحو سموها وعنفوانها وهي تطرح دور هذا الشاعر في قضية بلده.

وهنا نقف في ذروة هذا التصاعد وهذا الاتساع ونحن نتابع قصيدة (مطر صاعدٌ إلى السماء) والتي انبثقت من ضمير الشاعر ومن تفاعله مع طفل من ضحايا الإرهاب والكراهية وهو يقول: (سأخبر الله بكل شيء)

سمعته يئن:

سأخبر الله….

أكشف له صدري

وأريه ضماد رأسي

سأبكي أمامه

وأنا أحفظ ملامح ذئاب تضحك

وقرود بمخالب

وذكور يزحفون

وإناث من خشب

ضمت المجموعة الشعرية (مطرٌ صاعدٌ إلى السماء) للشاعر منذر عبد الحر قصائد متعددة ومختلفة تحمل ثيم لا تقل أهمية من تلك التي مررنا عليها، وهكذا نكتشف أن المهام الشعرية تتصاعد وتكبر مع كبر الإحساس بالمسؤولية وهموم الناس ويومياتهم.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة