جمال جاسم أمين
( 1 )
للعنونة / شعرية المعنى / أثرها البالغ في تكييف طريقة استبصار او نقد مجموعة الشاعر ( حسن عاتي الطائي ) الموسومة ( ببطء مثل برق ) بدلالة ان ( حسن ) ينتمي تأريخيا الى جيل أدبي ( سبعيني ) كان المعنى واحدا من مهيمنات اشتغاله الفني سواء في الادب او صنوف الابداع الاخرى، بل حتى الحركات او النصوص العابرة للمعنى او ما نطلق عليها ( سريالية ) هي في حوار مع هيمنه ( المعنى )، هذا اذا فهمنا القطيعة على أنها نوع من الصلات الظلية ! القطيعة مع المعنى ليست انقطاعا بل هي اقرب للموقف المتصل، الموازي و المحاور بطريقة ما لا غير.
ما يهمنا هنا هذه الانتباهة على جملة النص الكبرى ( ببطء مثل برق ) ! مفارقة حادثة او مستحدثة على قاموس شاعر مثل ( الطائي ) إذ أن شعرية المفارقة لم نشهد كثافتها الا في مشهد التسعينات الشعري و قسوة ( حصاره ) الذي أدخل الحياة العراقية كلها في خانة مفارقات لا تنتهي، خانة تشبه ظلام النفق الذي في نهايته نفق آخر!
بالطبع يستتبع شعرية المعنى نوع من المعمار أو البناء الذي يؤكد منطقا خاصا للنص يميزه عن نوع الكتابة التي تعتمد الجملة المنفصلة دلاليا عما يجاورها و بالتالي نشهد نوع من الهذيانات المسماة شعرا او قصيدة / نحن هنا إزاء نص منضبط دلاليا، أقصد النص الذي يكتبه ( الطائي ) و يوغل في مجاهله متكئا على عدة لغوية و مهارة من نوع خاص في إدارة شؤون النص اذا جاز لنا التعبير! وإذا صدق أن النص يحتاج خبرة ادارة او مداولة متوالية التدليل بما يوصل الى ذروة تشبه ذروة السرد:
الحدائق فتاة عذراء
لم تتزوج بعد
لا حبيب لديها لتطلعه على ..
ما تخبئه من كنوز
تعج بالسحر
يتوسع الشاعر هنا في فتح مفردة ( الحدائق ) على دلالة ( الفتاة ) أو حلم الزوجة المنتظر ثم يستطرد في بناء معمار نص تتضافر جمله الشعرية على تصعيد مهيمنة لا تتشتت ابدا، وصولا لذروتها:
ما الذي يمنعك أيتها الفتاة
من أن تكوني ..
مكانا ملائما للمواعيد ؟ !
الفتاة أم الحدائق ؟ هذا الإلتباس المقصود هو جوهر الفكرة و حصيلة الجهد الشعري ( الرؤيوي ) الذي بذله الشاعر في نص ( حدائق ) ذلك أنه إستطاع ان يقنعنا بأن هذه الحدائق ( فتاة ) ! من نوع ما .
ثم يمضي الشاعر ( ببطء ) لكن أي بطء ؟ ( مثل برق ) ! باكيا ( على كتف الليل الذي اكتفى بالظلام ) و أعزلا ( الا من شعره ) عصاه التي يهش بها على قطعان الكلمات التي تمرح في ( حقوله ) .. هنا نقف على نص ( حقول ) المفردة التي تتسع و تفيض نصا كاملا مثل سابقتها ( حدائق ) التي أزهرت ( فتاة ) ! الشاعر هنا يعتمد آلية توسيع المعنى او تفجيره من خلال ( مفردة ) تصلح للتوالد او التفجير :
لا أعرف ما الذي سأفعله للحقول
فها هي تستلقي امامي
محتشدة بالظمأ
تستبد بها الجراح
بانتظار غيمة ظلت الطريق
يحشد الشاعر هنا مفردات من عائلة دلالية متجاورة ( حقول ، ظمأ ، غيمة ) اذا لا شيء سائب او منفلت على طريق الهذيان، وبهذه الطريقة ينتظم المعنى عفويا.
وفي قصائد أخرى يتتبع الشاعر المسار ذاته، مسار ضبط بوصلة المعنى بما يوفر كمية كافية من جدوى القراءة كما يمنح القاري فرصة أن لا يضيع في متاهات لغة مفتوحة لا تفضي الى شيء اخيرا:
الطيور تعرف ماذا تفعل
و كذلك الانهار
اما الضباب فلا خيار امامه
سوى أن يكون غامضا
( 2 )
في النهاية لابد أن نقف على مغزى النص الذي استحق أن يأخذ رتبة العنونة أو ( العتبة ) على حد تعبير بعض الدراسين الذين يمنحون العناوين بوصفها عتبات نصية أهمية دلالية من نوع خاص ، ربما يعتبرونها بؤر باثة او مولدة للمعنى كما في ( ببطء مثل برق ) العتبة الهامة على مستوى حياة الشاعر و ليس نصه فقط اذ يقول :
مرت السنوات علينا / ببطء مثل برق
راينا فيها الكثير مما نريد / و مما لا نريد ان نراه
لكننا لم نر خلالها انفسنا جيدا
تقدمنا فيها عدة خطوات الى الخلف
و خطوة واحدة الى الامام
يتراخى الشعر هنا لصالح السيرة ! فالشاعر مشغول عن الفن بتدوين ما أراد أن يرى وما لم يرد في حياته الطويلة القصيرة في آن ، البطيئة ( مثل برق ) ! و المفارقة هنا تخرج للسخرية من تفاهة الشريط السيمي الذي يمر على لوحة تأمل الشاعر في لحظة حساب البيدر التي لا تتفق مع حساب الحقل كما يقال ! .. هذا النوع من الكتابة معني بالنهايات و المصائر الوجودية التي غالبا ما تأخذ صور خيبات شتى أكثر من أي شيء اخر فلا تلهيه الكلمات عن جدوى المعاينة و الإستبصار كما لا يعنى بما سيقوله ( الآخر ) ذلك لان الشاعر هنا مأخوذ بمهام أعمق يمكن أن نصفها بـ ( الذاتية ) او الشخصية التي يسعدها ان تهدل مثل حمامة على غصن بعيد و منفرد!
و أخيرا يقدم لنا الشاعر ( الطائي ) أفقا شعريا يفتح شهية القراءة المتأملة على الكثير من نوافذ الضوء و المعنى في حياة مكتظة ظلاما و ضيقا .. مررنا ( مثل برق ) على بعض مدوناته التي تحتاج ان نمر ( ببطء ) أكثر و أعمق !