محمد زكي ابراهيم
كان من أهم ما شهده العراق بعد عام 2003 صدور عدد كبير من الصحف والمجلات، غلب على معظمها الطابع التبشيري، بهدف التعريف بالمنظمات والأحزاب والجماعات الراغبة في ممارسة العمل السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي في العهد الجديد. وقد تضاءل عدد هذه الإصدارات بمرور الوقت، بعد دخول البلاد مرحلة الفرز، التي أدت إلى استبعاد الكثير من الأشخاص من الواجهة.
ومعلوم أن الصحافة اليومية أو الأسبوعية تحتاج إلى عنصر الإثارة، وتتغذى على الخلافات القائمة بين الأحزاب، وتعيش على احتدام الصراع بين الخصوم. وإذا ما دخلت مرحلة الوفاق، وتصالح السياسيون في ما بينهم، فإن من الصعب على الصحافة الاستمرار في الصدور، لأنها تفتقد حينئذ السبب الذي قامت من أجله. وكان من المفترض أن تسعى هذه الصحف لنشر ما يثير شغف القارئ بدل تكرار ما ألف سماعه، على وسائل الإعلام المرئية، من كلمات ناعمة. فالسياسيون يصوغون عباراتهم في العادة بتواضع كبير، وأدب جم. لكنهم يتصرفون غالباً بخلاف هذا السلوك، ويكيد بعضهم للبعض الآخر، لأن فوز شخص ما يعني بالتأكيد خسارة آخر، وهكذا.
وما ينطبق على السياسة ينطبق على الأدب أيضاً. فالصحف التي تفتعل الخصومات تحظى بجمهور عريض. والخارجون عن المألوف يحوزون شهرة واسعة. وهكذا فعل أشخاص لامعون مثل طه حسين وعباس العقاد وزكي مبارك في مصر. أما ضحايا هذه الخصومات، فكانوا كثيرين مثل أمير الشعراء أحمد شوقي.
وكان الزهاوي في العراق من الذين خاضوا الكثير من السجالات، بسبب آرائه الخارجة عن الإجماع. حتى عدد هو نفسه الألقاب التي حظي بها، فذكر منها الزنديق. وكان نزاعه مع الرصافي من أشهر ما تناقله الناس، ومن أكثر ما تداولته الأوساط الأدبية في الثلث الأول من القرن العشرين. ولا أعلم لم لم تتطور المعارك الأدبية في العراق الحديث، أي بعد عام 2003، رغم وجود الكثير من الخلافات، التي يعود الأصل فيها إلى السياسة.
وقد نشر أحد المفكرين العراقيين البارزين كتاباً ضمنه المقالات التي رفضت الصحف نشرها، بسبب طابعها الهجومي. ويبدو أن الكاتب لم يحسن اختيار الزمان والمكان اللذين قدم فيهما إسهاماته الفكرية، فقديماً قالت العرب لكل مقام مقال. فحينما يدعى إلى مؤتمر في دولة عربية، يقدم محاضرة يعرض فيها برئيس الدولة ورموزها وسياسييها. ويشارك في ملف في مجلة حزبية فينحو باللائمة على مموليها من القادة والزعماء، ولا يبخل عليهم بالسخرية اللاذعة، والتسفيه الصريح. ولم يكن موفقاً في هذا، وكان بإمكانه إرسالها إلى دورية مناوئة، لتنشرها بفرح غامر، أو إلقاءها في حفل معاد، فتقابل بالسعادة والانشراح.
لست أدري ما الذي يجعل السياسيين والأدباء العرب ناعمين لهذه الدرجة، يتصرفون كالحملان الوديعة المسالمة، مع أنهم في الغالب لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولو أنهم أسفروا عن دخائل نفوسهم لكسبت الصحف من ذلك الكثير، ولجنى الأدب من ورائهم الربح الوفير !