شكيب كاظم
منذ أيام الدرس الجامعي في الجامعة المستنصرية، استرعى انتباهي، ونحن في درس النحو العربي، وتحديداً في مبحث (ما ولا ولات وإن) المشبهات بـ (ليس)، أن ثمة رأياً نحوياً ولغوياً، فضلاً عن لُغَيّات ولهجات لـ(قبيلة تميم)، وظل هذا الرأي مبثوثاً في كتب النحو واللغة، ولأهميته، فقد وصل إلينا، مخترقاً نحو ألف من الأعوام ونصف الألف، وأظنه سيبقى ماثلاً في أذهان الدارسين، على الرغم من سيادة اللغة الموحدة، واضمحلال لغات أو لُغَيّات أو لهجات العديد من القبائل العربية، لا بل أن مصطلحاً هو (العجرفية) الذي ينسب إلى قبيلة (ضبة)، لم يصل إلينا من هذه العجرفية مثال واحد، ولم تعرف ماهية هذه العجرفية، ولو ذكرت كتب اللغة والنحو مثالا لها لَعُرِفَت، ترى ألها علاقة بـ( العجرفة)؟! حتى وأنا أقرأ في كتاب (الخصائص) صنعة أبي الفتح عثمان بن جني (المتوفى في 392هـ) في (باب اختلاف اللهجات وكلها حجة) جاء فيه قوله: “ارتفعت قريش في الفصاحة عن عنعنة تميم، وكشكشة ربيعة، وكسكسة هوازن، وتضجّع قيس، وعجرفية ضبة، وتلتلة بهراء”. يراجع الجزء الأول. ص13 ص14بتحقيق الأستاذ محمد علي النجار. طبعة مشروع النشر المشترك. الهيئة المصرية العامة للكتاب-دار الشؤون الثقافية العامة. بغداد 1990.
وإذ يورد ابن جني أمثلة عن العنعنة والكشكسة والكسكسة، فإنه يطوي كشحا عن إيراد مثال واحد عن هذه العجرفية الضبية!
قال قاضي القضاة، بهاء الدين عبد الله بن عقيل العقيلي (698-769هـ) في شرحه لألفية أبي عبد الله جمال الدين بن مالك (600-672هـ) شارحا البيت التالي:
إعمال(ليس) أعملت (ما) دون (إن)–مع بقا النفي وترتيب زكن
ومعنى البيت هذا: أعملت ما النافية أعمال ليس، حال كونها غير مقترنة بإن الزائدة، وحال كون نفيها باقياً، وكون اسمها مقدما على خبرها.
ابن عقيل ينص على أن (ما) بلغة تميم أنها، لا تعمل شيئاً، فتقول (ما زيد قائم) فزيد: مرفوع بالابتداء، وقائم خبره، ولا عمل لـ(ما) في شيىء منهما، وذلك لأن (ما) حرف لا يختص (أي لا يعمل) لدخوله على الاسم نحو (ما زيد قائم)، وعلى الفعل نحو (ما يقوم زيد)، وما لا يختص فحقه الا يعمل، ولغة الحجاز إعمالها كعمل (ليس) لشبهها بها في أنها لنفي الحال عند الإطلاق (أي في الوقت الحاضر) فيرفعون بها الاسم وينصبون بها الخبر، نحو (ما زيد قائماً). قال الله تعالى (ما هذا بشراً) وقال تعالى:(ما هن أمهاتهم)”. تراجع ص302 من الجزء الأول من الشرح. الطبعة الرابعة عشرة.1384ه-1964م.
ولقد أورد الباحث العراقي الرصين الدكتور هاشم الطعان ( 1931-1981) في أطروحته اللغوية القيمة، التي نال عنها درجة الدكتوراه، وعنوانها (الأدب الجاهلي بين لهجات القبائل واللغة الموحدة) التي طبعتها وزارة الثقافة والفنون في الجمهورية العراقية سنة 1978، طبعتها الأولى في ضمن سلسلة (دراسات) وحملت الرقم (152)، أورد الباحث هاشم الطعان، عديد ما تميزت به قبيلة تميم عن بقية القبائل العربية، ولا سيما القبائل التي نص اللغويون والنحاة الأوائل على الأخذ منها، وهي التي استوطنت عمق الجزيرة العربية، ولم يتأثر لسانها بألسنة الأمم المجاورة، أو كان التأثر طفيفاً، ولقد نص اللغويون على قبائل بعينها، مما هو مبثوث في كتب اللغة، من اختلاف في وجهات نظر اللغويين المتقدمين، في النص على قبائل بذاتها، وتأكيد الأخذ عنها ومنها، وقد أشار الباحث الأستاذ الدكتور فتحي عبد الفتاح الدجني في كتابه المهم، الذي استقصى فيه (ظاهرة الشذوذ في النحو العربي) أشار الدجني نقلا عن (المزهر) للسيوطي: “إن أبا نصر الفارابي قال في كتابه المسمى (الألفاظ والحروف) إن الذين عنهم نقلت اللغة العربية وبهم اقتدي وعنهم أخذ اللسان العربي من قبائل العرب وهم: قيس، وتميم، وأسد فإن هؤلاء هم الذين أخذ عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه، وعليهم اتكل في الغريب وفي الإعراب والتصريف، ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين. ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم، فإنه لم يؤخذ عن حضري قط، ولا عن سكان البوادي ممن كان يسكن أطراف بلادهم المجاورة لسائر الأمم، الذين حولهم، فإنه لم يؤخذ لا عن لخم ولا عن جذام لمجاورتهم أهل مصر والقبط، ولا عن قضاعة، وغسان، واياد لمجاورتهم أهل الشام، وأكثرهم نصارى يقرأون بالعبرانية، ولا من تغلب واليمن فإنهم كانوا مجاورين لليونان، ولا من بكر لمجاورتهم النبط والفرس، ولا من أهل اليمن لمخالطتهم للهند والحبشة، ولا من بني حنيفة، وسكان اليمامة، ولا من ثقيف وأهل الطائف لمخالطتهم تجار اليمن المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدأوا ينقلون لغة العرب، وقد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم”. تراجع ص92ص93 من الكتاب آنف الذكر. الناشر وكالة المطبوعات، الكويت. الطبعة الأولى 1974.
ولقد عجبت لرأي الفارابي، ومنه، في هذا الشأن، وخوضه في أمر ليس من اختصاصه، فضلا عن كونه من المتأخرين، وبينه وبين هذا الذي يقرره قرون من الزمن وقرون، ومع ذلك فقد استند عليه كثير من اللغويين والنحاة.
الدكتور هاشم الطعان في مبحثه (الأدب الجاهلي واللهجات)، وتحديداً (نموذج البيئة النجدية. تميم) يقرر أن اللغويين القدامى، وفروا لنا كثيرا من السمات اللهجية لهذه القبيلة، وتكوّن مع ما وفروه من سمات لهجة الحجاز، أكثر مجموعتين من الظواهر اللهجية التي وصلت إلينا. تنظر ص185ص187
ومنها (النبر)، أي (الهمز)، في حين نلمس التسهيل في لغات أُخَر، ومنها لغة الحجازيين، وكذلك كلمة (زوج) فإن اللغويين نسبوا إلى الحجازيين قولهم في المرأة (زوج) وإن أهل نجد وتميم وسائر العرب يلفظونها (زوجة) بالهاء، وجاء القرآن بلغة الحجاز:” يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة” البقرة”:35
لقد كان من المؤمل للغة تميم أو لهجتها أن تسود وتشيع، وذلك لكثرة أفرادها، وانتجاعها أصقاع عديدة من الجزيرة، لكن إذ ظهر الدين الجديد، ونزل كتابه المبين بلغة الحجاز وتحديداً لغة قريش التي أضحت قبيلة حاكمة، ومن ثمّ أمست لغتها، لغة العهد الجديد والدين الجديد، ولغة الحكم والخلافة، وبما أن الناس على دين ملوكها، كسبا لمغنم، فقد أهتم الدارسون بها كثيرا وأغفلوا دراسة بقية اللهجات واللغات، والإشارة إليها لماما، مما أدى إلى ضمورها وضياع هذا الكنز اللغوي الثري، عدا إشارات قليلة إلى لهجة تميم خاصة.
ويرى الباحث العراقي الرصين الأستاذ الدكتور غالب فاضل المطلبي، في بحثه المهم الذي نال به وعنه درجة الدكتوراه، ونشره في كتاب عنوانه (لهجة تميم وأثرها في العربية الموحدة) طبعته وزارة الثقافة والفنون في الجمهورية العراقية سنة ١٩٧٨ في ضمن سلسلة (دراسات) وحمل الرقم 155، يرى المطلبي أن العربية الفصيحة ليست لغة الحجاز تحديداً، كما تعارف اللغويون والنحويون ذلك، بل هي مزيج من لغات القبائل العربية جميعها، وقد يكون لهذه القبيلة أثر واضح وقد يقل لدى الأخرى. بعبارة أخرى، أن العربية الفصحى أخذت من لغات العرب جميعاً. تنظر ص54
لقد كان محتملا أن تندرس هذه اللُغَيّات واللهجات، لانصراف الرواة واللغويين عن الاهتمام بها وتدوينها، واضعين في الحسبان، صعوبة النص على لهجة بعينها ولمن تنسب، للتداخل الحاصل بين القبائل، فقد يكون الراوية؛ راوي الشعر من غير قبيلة الشاعر، فيروي شعره، إما بلهجته؛ لهجة الراوي، أو باللغة الأدبية الشائعة، فيحصل الخلاف هنا، ولمن تنسب هذه اللفظة الخلافية، فضلاً عن أن عديد الرواة، ولاسيما كبار الشأن منهم: أبو عمرو بن العلاء، الأصمعي، خلف الأحمر، كانوا يصلحون في شعر الشاعر، إذا حصل فيه شك أو إبهام، أو عدم اتساق مع المعنى العام للقصيدة، أو البيت تحديداً، فثمة من الشعراء من لا يديم النظر في شعره ويجوّد فيه، مثل بقية شعراء عرفوا بشعراء الحوليات والتدقيق والتحكيك، وهم الذين يصرفون سنة، حولاً، لإنشاء القصيدة، فضلاً عن أن الناس حين يتناشدون الشعر، ينشدونه بلهجتهم، وبهذا تكثر رواية البيت الواحد، وليس في ذلك قدح في الشعر ولا غض من شأنه، كما قال الدكتور هاشم الطعان، مستقياً ذلك من (المرزباني384ه) في كتابه (الموشح في مآخذ العلماء على الشعراء) فضلاً عن عبد القادر بن عمر البغدادي (1093ه) في كتابه (خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب) ولهذا وصل إلينا من هذه اللهجة القليل. تنظر ص242 من المرجع نفسه.
ولعل من حس حظ هذه اللغات، أن اشتمل القرآن الكريم على غالب لهجات العرب، ومن يغوص في البحر اللجي للقراءات القرآنية، يجد هذه اللهجات، وارى ذلك محاولة لتأليف قلوب العرب تجاه الرسالة المحمدية الوليدة، التي نطق القرآن بلسانها، فإذ تجد لهجتك أو لغتك في النص الرباني، فإن القلوب لتهفو والأبصار لترنو نحو هذا النص القرآني، ومن ثم الإيمان بما جاء فيه.