د. عبد الكاظم جبر
ما إنْ نفض يديه من الماء والطين ، في حقول (غمّاس) وبساتينها، حتى غمس قاسم العابدي يديه في ماءٍ وطينٍ آخرين، ولكنهما من طبيعة أخرى، حيث أحواضُ تحميض أفلام التصوير الفوتوغرافي، ذلك التصوير الذي برع فيه وتميّز، وما أن تمّ له ذلك حتى نفض يديه، مرة أخرى، من ماء الأحماض ومحاليل التبييض والتثبيت؛ وتفرّغ إلى ماءٍ وطين من عالمٍ آخر غير جديد عليه، خلّق منهما صحائف من المعاني القشيبة، في قوالب منتظمة الأوزان والفواصل، ولا غرو فقد قال الجاحظ: ((وإنما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج وصحة الطبع وكثرة الماء وجودة السبك، وإنما الشعر صياغة وضرب من التصوير))، ولا شكّ في أن شيئاً كثيراً ممّا كان له من مزاولة وعمل قد تسّرب إلى صحائف شعره، فكان بارعاً في التصوير البياني، عارفاً بالبعد والقرب ومساقط الضوء والظلال في أماكنه الجميلة، في الحقول والبساتين والفضاءات الممتدة بين يديه؛ فكان أن صدر له من قبلُ دواوين أربعةٌ، هي: (سماوات البنفسج)، و(هديل النوافذ)، و(إيقاع القمر الفضي)، و(مدن يغازلها التراب)، وواضحٌ من هذه العناوين أنه قد اختارها بعناية، ففيها من الادهاش والغرائبية الشيء الكثير، وهو ما يجعلها بنية لغوية تؤدي مهمة خاصة في بيان ملامح التجربة الشعرية.
وعنوان ديوانه الخامس هو (قمح بألسنة المياه)، وهو جارٍ فيه على ما في العناوين المتقدمة، من استعارة مدهشة، لما في تركيبه اللغويّ من علاقات جديدة مبتكرة بين الألفاظ. ويلتزم قاسم العابدي هذا النهج في معظم عناوين القصائد التي ضمها هذا الديوان، كـ ( هوامش فأس)،و(مذاق يوم الوداع)، و(منفى الخيال)، و(ضفة اللاهين)، و(ضفة التاريخ)، و(رصيف الحيارى)، و(آفاق سنبلة)، و(مهرة الوقت)، و(قوس الجراح)، و(جبين البيان)، و(احتلال الأسى)، و(تكبيرة عشق)، و(مصاحف الزيف)، و(وشم على كتف الفراغ)، و(ربا الآهات)، و(هدايا الشك)، و(لغات الغيم)، و(سكاكين الغياب)، وهي، كما هو بيّن، استعارات مكنية تخييلية، حققها الإسناد الإضافي المنعقد بعلاقات جديدة . والعابدي يأنسُ بالعنوان الذي هو على هذا الوصف ، فهو يقول متحدثاً عن نفسه:
رصفَ اللغاتِ المدركاتِ حدودَهُ ليشــــيّـــــدَ العنوانُ كعبـــةَ أُنسِهِ
كما يأنس بالمجاز الذي هو على هذا النحو، وهو لا يخفي هذا ويصرح به في أكثر من موضع، يقول:
وأقام كـــهفاً للــمجاز يزاورُ الـ معنى وتفرضُهُ مــواطنُ أُنسِـــهِ
واللغة، بعدُ، ألفاظ وعلاقات تقوم بينها، واللفظ يزهر بعلاقات جديدة مباغتة، وهذه المباغتة تعدّ محوراً مهماً من المحاور الأسلوبية لأي تجربة إبداعية، لأن قيمة كل مؤشر أسلوبي تتناسب مع درجة المباغتة التي يحدثها تناسباً طردياً، فكلما كانت غير متوقعة كانت ذات أثر فعال في المتلقي، وكل تلك المباغتة يجب أن تكون في حدود (الرخص الشعرية)، كما يعبر كوهين، وهذا ما حرص عليه العابدي كثيراً، وربما يكون أسرف على نفسه في الإكثار من خلق علاقات مجازية (استعارية) حرّة متشابكة، بما يشبه أن يكون ستراتيجية بنائية عنده، وبالمقابل قد يكون هذا أمراً يُحسب له، أو أنه أراد أن يرفع من درجة التلقي، وعليه فالأمر متروك للمتلقي الذي هو شريك أصيل في هذه العملية التواصلية، ولا يفوتني القول إن قاسماً لا يترك شيئاً مما هو فيه دون أن يستنفد كل أغراضه منه، ويعتصر دلالاته حد الثمالة، فهو لا يقف عند حدود المعاني الظاهرة، بل يولد منها، قدر ما يستطيع، إيماءات مبتكرة، وربما يكون أفرط في هذا الاستكشاف .
إن تجربة العابدي، في هذا الديوان، هي امتداد ، بنحوٍ ما، لتجارب الشعراء المجايلين له، من حيث الرؤية، والمعجم الشعري، فهو يحاذي لغة مجايليه، ويستخدم بلاغتهم الجديدة، على النحو الذي ذكرنا، وهو كما هم، لا يبدو بعيداً في الغالب عن القصيدة التقليدية، في اعتماد الشفاهية أساساً في مخاطبة جمهوره ، فهو يتوخى الصلة بينه وبين الجمهور، على الرغم من كون القصيدة كائناً ورقياً، لكنها تنبض بالتلقي، فلذا هو يعلي من الخصائص الموسيقية (الوزن والقافية)، ويغذي قصيدته جاهداً، وعلى الدوام، بكل ما يجعلها صالحة للتلقي، فهو لا ينتظر متلقياً مؤجلاً أو أزمنة تتلقاه.
ويفصح الديوان عن دفء غنائي دفين، وربما يكشف عن ذلك إيقاع قصائده الذي يندفع به إلى مدياته المرهفة، وقد كانت عنايته بمطالع قصائده ذات الشطرين أكثر مظاهر الغنائية وضوحاً، فهو يحاول أن يجد لمتلقيه أعذب المداخل وأكثرها دفئاً، ليثير فيه مخزوناً وجدانياً أكثر حميمية. وقد اختار البحور الشعرية الأكثر وفاءً بتلك الغنائية ، وكان أكثرها حضوراً (البسيط والكامل والوافر والطويل)، وأقلها (المتقارب والرمل)، وقوافيه متنوعة، تشترك في تكثيف الغنائية وتطلق مدياتها الرحبة، وديوانه هذا، كما قلنا، يغصّ بالصور المجازية ، ولا سيما الصور الاستعارية، وهي روح الغنائية فيه؛ ولذا لست متفقاً تماماً مع كمال أبو ديب، الذي ذهب إلى أن (( طغيان الانتظام الوزني في الشعر يرافقه انحسار للصور الشعرية عنه)).
وعطفاً على الغنائية فإنه أحياناً يلجأ إلى أسلوب الالتفات ، وذلك ليكسر من حدة الغنائية المنفعلة الجامحة، ويعود إلى خطاب الآخر، كما في قوله:
أصغي لذاتيَ عندَ السهلِ والصَعْبِ كي لا أتــــــــــوهَ على كرّاسةِ الغيبِ
كي أشبعَ القلبَ أحــزاناً ، أؤرّخُها عبرَ المحطاتِ من شــرقٍ الى غربِ
من أنتَ يا أنتَ يا مـــوتاً ومعجزةً آمنتَ بالبُـــــعدِ لم تحفلْ إلى القُـــربِ
ومن أبرز مظاهر التشكيل اللغوي التي وظّفها شيوع الجمل الإنشائية الخطابية في بعض قصائده، كـما في قصيدته (مقامرة)، وهو يكشف عن الانفعال الشعري، فهو ليس ناقل أخبار، وإنما هو مترجم لواعج وأحاسيس، ومصور لرؤاه الخاصة. وأحياناً ، وبحرفية نادرة ، يترجم انفعاله بأن يتوارى خلف ضمير الغائب، فيضع بينه وبين ذاته مسافة، ليفضي بما في نفسه عن نفسه ، وهو أسلوب موارب، كما في (هوامش فأس) ، (وسكاكين الغياب) ، على العكس ممن يتخذ (القناع) أسلوباً فنياً.
ويبدو أن عدداً من القصائد والمقاطع في الديوان؛ هي أشبه بالخواطر أو المشاهد التي تتفتق أحداثها الخاصة تفتقاً، وهي أحداث غير واقعة ، وتنتظم فيها الصور، لتأخذ طابعاً فنتازياً أو أسطورياً أخّاذاً :
أنا وريثُ الّذينَ استمطروا دمهــــمْ على مسافــــاتِ جُرحٍ دونما سُحبِ
لا يملكونَ سوى الآهاتِ ملبسهــــم طيبُ القلوبِ بهمْ أسمى من الذّهبِ
لا يكذبونَ وإنْ حُـــــزّتْ مناحرُهمْ فالمـوتُ أنقى لهمْ من سيرةِ الكذبِ
همْ يرحلونَ إلى الأشجانِ يحملُهُــمْ لحنُ الجــراحِ وفيهمْ فورةُ الطّرَبِ
ويحتسونَ خمــــورَ الفقدِ تسبقُهُــــمْ لحانةِ المـــوتِ أسرارٌ منَ القصبِ
وهذا مظهر من مظاهر الإبداع والخلق عنده، وبإزاء هذا فإن نبرة الأسى والحزن عند العابدي، تتجاوز معنى التلذذ بالألم أو استعذابه، كالذي نجده عند الرومانسيين، ذلك لأن أساه وحزنه لا يخلوان من علة واقعة فعلاً، وهذا ضرب من هجاء الواقع والتنديد به، وهو مبدعٌ خلاقٌ في كل ذلك.
وبعدُ، فإنّي لا أريد أن أنوب عن القارئ في النظر إلى مكامن الجمال والسحر، وحسبي أنني وضعت فنارات في الطريق تضيء عوالم قاسم العابدي، وتحتفل بحقول قمحه وبذاره.