عندما نضع حجم التضحيات والمواقف البطولية التي سطرها، من هدهدت عقله وضميره قيم الحرية والكرامة، من دون تمييز على اساس الانتماء لهذه الجهة الفئوية أو تلك، مقابل ما حصده العراقيون بعد ذلك المشوار الطويل والمرير الذي قطعوه؛ نصطدم بنتائج ظالمة ومجحفة بحق تلك المآثر والتي لم تضطر العديد من البلدان التي عرفت الاستقرار والازدهار؛ الى تسديد جزء يسير منها كي تصل الى ما ارتقت اليه. في محاولة لتفكيك شيئا من طلاسم هذه الحيرة، ساتناول في مقالي هذه؛ ذلك الارث المشرق من المآثر والتضحيات، والدور الذي مارسته “الشراهة الفئوية” وما يرافقها عادة من ضيق افق في تشويهه عبر تطويبه لصالح عناوينها الحزبية والعقائدية الضيقة، مما الحق افدح الاضرار بذلك الارث الوطني والانساني العابر في مغزاه ومقاصده النهائية لروح الاستئثار البليدة. على سبيل المثال في التناهش المحتدم بين مختلف الاحزاب والكيانات من شتى العناوين اليمينية واليسارية أو الحداثوية والتقليدية؛ نجد ذلك الارث الوطني هو الضحية الاساس لتلك الحماقات، حيث يسخف ويسيء كل طرف من هذه الاطراف وكل بطريقته لأفضل ما مر على ذلك الحزب أو الجماعة من محطات وشخصيات وطنية وانسانية، وجدت نفسها لشروط خاصة ضمن صفوف هذا الحزب أو ذاك.
من يتصفح شيئا من تاريخ العراق الحديث وبنحو خاص في المقطع التاريخي (1921-2020) سيتعرف على ظاهرة ولادة واندثار عدة أجيال من الاحزاب والحركات السياسية والاجتماعية، وما نود ان نتوقف عنده سيتركز على ما ضمته تلك الكيانات من تركيبة واسعة ومعقدة من الشرائح الاجتماعية المتعددة المشارب والقيم، حيث شهدت الحياة الداخلية لها شتى انواع المواجهات والصراعات، والتي فاقت احياناً شدة صراعاتها مع منافسيها الخارجيين، حيث شهدت في بعضها صراعات دموية ومجازر ارتكبها الرفاق والمجاهدين ضد بعضهم البعض الآخر، وقد رافق كل ذلك تدوين صفحات من الخسة والدونية والاجرام في التعاطي مع كل ما يجدونه مختلف عنهم، وهذا ما اطلعت عليه شخصياً طوال عقود من العمل داخل التنظيمات السياسية وخارجها، وقد فاقم مناخات التعفن تلك ما عاشه العراق في ظل سلطة العصابات التي فرضت هيمنتها على تفاصيل حياة الدولة والمجتمع، وشروط الحياة الطويلة والبائسة في المنافي.
ان فشل العراقيين في مهمة ايجاد مؤسسات علمية وبحثية رصينة، تضع نصب عينها قائمة الهموم والاهتمامات المسكوت عنها، ومنها التنقيب والتقصي عن ذلك الارث الوطني والحضاري، وبالتالي انتشاله من بورصة المزاودات الرخيصة لما تبقى من احزاب وكيانات سياسية ونقابية ومهنية؛ يتيح لقوارض المنعطفات التاريخية افضل الفرص للاستثمار في هذا المشهد المعتم والملتبس، وهذا ما يمكن التعرف عليه في الكثير من تجليات الصلافة والجرأة، في سيول الحملات الممنهجة التي لم تنقطع لتشويه ذلك الارث الوطني.فعلى سبيل المثال لا الحصر تعد تجربة اليسار العراقي وقوته الاساس (الحزب الشيوعي العراقي) والمحطات المشرقة من نضاله السياسي والاجتماعي والقيمي (لا المتخاذلة) ملكاً للعراقيين الاحرار جميعاً، فهو ارث وطني لا يفضي التفريط به أو الاساءة اليه؛ لغير المزيد من التشرذم والضياع. ولن يختلف الامر عما عرفته باقي الاحزاب والتنظيمات من مواقف وشخصيات وضعت نصب عينيها قضايا الوطن والكرامة وحقوق الناس. المواقف المسؤولة والشجاعة والصفحات المشرقة هي ارث وطني لكل العراقيين الاحرار لا للعناوين والاحزاب والكيانات العابرة..
جمال جصاني