بعد أن تمكن كورونا المستجد “كوفيد 19” من فرض هيمنته المطلقة على هذا الكوكب الازرق، وبعد تعرفنا على طبيعته المدمرة بوصفه جائحة لم تعرف مثلها المجتمعات البشرية من قبل، تبين لنا حجم المشتركات التي تجمعه مع جائحة اخرى فتكت وما زالت بكل ماهو حي وفعال في هذا الوطن الذي كان مترعاً بالاحلام والتطلعات الوطنية والحضارية الراقية، قبل أن تكتسحه جائحة (البعث). حزب، لا علاقة له بهذا العنوان الذي يشغل مكاناً مرموقاً في الادبيات السياسية والفكرية، فالاحزاب السياسية الحديثة برزت الى الوجود مع الثورة الفرنسية الكبرى (1789م) ثم اغتنت بمضامينها الحديثة مع سلسلة من الثورات والزحزحات العلمية والقيمية التي شهدها عالم ما بعد كوبرنيكوس. ومن يهمه أمر الاحزاب السياسية وتاريخها وصيروراتها وتوهجها واندثارها، يعرف انها عبرت عن حاجات موضوعية وذاتية لزمانها ومكانها، واليوم نشهد جميعاً انتهاء صلاحية جيل الاحزاب العقائدية والآيديولوجية، وولادة أحزاب جديدة وظيفتها الاساس تقديم أفضل الخدمات لمجتمعاتها وناخبيها وبالتالي أمن واستقرار وازدهار بلدانها.
في العودة لجائحة البعث، نجدها لا علاقة لها بما عرفناه عن الاحزاب السياسية، والتي تتسابق للفوز بالانتخابات كي تقدم أفضل ما لديها لخدمة الشأن العام. أما ما ابتلينا به من جائحة سياسية وقيمية، فلا هم يشغلها سوى استهداف وتدمير أهم خصيصة لدى المجتمع (افرادا وجماعات) أي آدميته، ولديها من الادوات والوسائل في التدمير والمسخ والوصول لغاياتها، بحيث لا تجدي مع معطوبيها أو ما يمكن أن نطلق عليه بـ “ملامسيها” سوى الحجر لحين التاكد تماماً من زوال أعراضها وتماثلهم للشفاء التام. حتى أكثر الاحزاب شهرة بمركزيتها وآيديولوجيتها (الشيوعية) اعترفت بعقم الاساليب والمناهج التي اتبعتها وبحجم الضرر الذي الحقته بمجتمعاتها وبلدانها، وهذا ما لم يحصل مع مخلوقات الجائحة الزيتونية، حيث لم نشهد اية عينة منهم (افرادا او جماعات) عرفت طريقها لثقافة الاعتذار عما ارتكبوه من أهوال وانتهاكات وموبقات بحق أفضل ما انجبته هذه الارض من ملاكات علمية وعسكرية ومدنية وعدد لا يحصى من الشخصيات المرموقة من شتى الاختصاصات.
يمكن التاكد من وجود هذه الجائحة فيما تركته من مخلفات وآثار على ضحاياها، حيث فقدان القدرة على استعمال حواسهم للتميز بين الغث والسمين وبين العدو والصديق، والعجز عن النهوض لاسترداد عافيته وآدمته بالرغم من مرور ما يقارب العقدين على زوال سلطتها السياسية. تمعنوا فيما يطفح من ردود افعال “ضحاياها” تجاه ما يجري من احداث واخبار؛ وكيف يتعاطفون مع “الجلاد” ويحتفون به، بينما لا تجد “الضحية” عندهم غير الغدر والخذلان والصد وذلك اضعف الايمان. هؤلاء الملامسون لجائحة البعث تصفهم حنه ارندت بايجاز شديد بانها “مخلوقات فاقدة للمعنى” وعندما نتحسس مواقعها وتأثيرها ونفوذها في تفاصيل حياة المجتمع واسلاب الدولة؛ ندرك حجم الكارثة المحدقة بنا جميعاً. أشد ما يجبرنا على الضحك ونحن وسط كل هذه المأساة هو حجم انتشار عبارة “البعث صار من الماضي”..؟! أما كيف صار من الماضي؟ وما اللقاح الذي انتجه العراقيون للقضاء على جائحته؟ وغير ذلك الكثير من الاسئلة التي ستظل بلا أجوبة. لكن الحقيقة والتي لا يتناطح عليها عنزان؛ ان لصوص ومشعوذي حقبة الفتح الديمقراطي المبين وفروا لفلول الجائحة كل ما يحتاجونه لانتاج نسخهم المستجدة والتي لم تعد بحاجة الى الانحناء بعد أن اطمانت على خواء وفاشوشية العاصفة..
جمال جصاني