تشير المعاجم اللغوية الا ان هذه المفردة (الحبربش) قديمة، وغالبا ما تستعمل للاشارة الى حثالة المجتمع و”التافه من الناس”، وهي كما حال حياة المفردات تكتسي مع الزمن معاني وشحنات متجددة، ولها عند العراقيين معنى وتصور وايقاع خاص بها؛ لما لعبته من أدوار خطيرة، وما اكتسحته من مساحات نفوذ ومواقع مفصلية على تضاريسهم المستباحة. في بلد خضع ولاربعة عقود تقريبا لابشع نظام شمولي عرفه تاريخ المنطقة الحديث، نجح بمحق كل ما يمت بصلة لقوة العراق وحيويته (تعدديته السياسية والقومية والثقافية)، ولم يتحرر منه الا عبر المشرط الخارجي؛ وجدت شريحة الحبربش فيه كل ما تحتاجه كي “تبقى وتتمدد” لكل تفاصيل حياته. بلد لا وجود فيه لاي حزب سياسي أو نقابة أو تنظيم مهني وثقافي، بالمعنى الحديث لهذه العناوين، لا بما يدعيه هذا الطفح الهائل منها، والذي تعرفنا عليه بعد تلقف شحاطات أطفال بغداد لرأس الصنم في ساحة الفردوس، حيث سرعان ما تحولت جميعها ومن دون استثناء؛ الى حاضنة انموذجية لانتاج وتخصيب سلالات جديدة ومبتكرة من جنس الحبربش.
صحيح ان هذا النوع من المخلوقات مثقلة بكل ماهو متنافر واثمن ما يمتلكه المرء (آدميته)، الا انها لا تعدم من الذكاء والموهبة والرشاقة والعدة المطلوبة للوصول الى غاياتها تحت وابل كثيف من المانشيتات الجميلة. وكما اشرنا فان كل الشروط والمعايير وما يرافقهما من حاجات تستدعي مثل تلك المواهب التي تتمتع بها شريحة الحبربش، ومن يتمعن جيدا بما يحصل حولنا من هوسات وفرمانات واستعراضات مهينة؛ يدرك حجم تأثيرها ونفوذها وسطوتها على مجرى الاحداث والدقلات البهلوانية المرافقة لها. هذه هي الجائحة التي تفتك بكل ما يمكن التعويل عليه في انتشال مشحوفنا المشترك من متاهته المزمنة، ومن يعرف شيئا عن تاريخنا الحديث سيتوقف حتماً عند اعتكاف واعتزال رائد الوطنية العراقية الراحل جعفر ابو التمن النشاط السياسي في الاربعينيات من القرن المنصرم، بعد اصطدامه ببواكير هذه الجائحة الاجتماعية والسياسية والقيمية. أما اليوم وبعد سلسلة الخيبات والكوارث التي شهدها البلد، والذي مثلت “جمهورية الخوف” ذروته، فانها وجدت بما اتسمت به حقبة الفتح الديمقراطي المبين، من فوضى وشراهة وضيق افق وفقدان للمعايير؛ كل ما تحتاجه لتصنيع نسختها المستجدة من “حبربش 19”.
ليس غريبا ابدا ان يتقدم ممثلي هذه الشريحة لتقلد مواقعهم وتصدر واجهة الاحداث، فقد أجمعت امكاناتنا الفعليه البائسة على ذلك، رغم انف “الافندية” ومحاولاتهم العابثة لفرض ما يتوهمونه على تضاريس خضعت طويلا لهيمنة احقر ما عرفته سلالات بني آدم من قتلة ولصوص ومشعوذين، هيمنة أوجدت حقولاً شاسعة لا تنتج سوى القشامر والغمان وكل ما تقتات عليه قوارض الحبربش المستجدة. لقد حذرنا مراراً وتكراراً عما سوف يتمخض من كل هذا الخلط الممنهج للمواقع والمآرب والتطلعات، ومن ترسانة المكر والدهاء التي تقف خلف كل هذه الدمى المتقافزة على مسرح الاحداث، لكن لا حياة لمتلقي يلهث مهرولاً الى حيث يقوده جلاده. لقد عرت جائحة كورونا (كوفيد 19) حقيقة ما نحن عليه (افرادا وجماعات) من بؤس وضحالة على شتى الاصعدة، وما سطوع نجم (حبربش 19) ونحن امام الكارثة المحدقة؛ الا دليل واضح على ما ينتظرنا من مفاجآت لا تحمد عقباها…
جمال جصاني