حيلة العقل والمصيدة النسقية
د. سمير الخليل
نحن نعرف أن لعبة القصاصين الكبار هي لعبة القبض على المعاني الكبيرة، فما ينقذ نصوصهم القصصية ليست البلاغات البهيجة، ولا إجادة رسم الشخصيات، ولا اتخاذ الأماكن المنتقاة، أليفة أو معادية، ولا التعويل على وجهات النظر الجوّالة، ولا التلاعب بالأزمنة، ولا التحبيك المسبب، ولا قوة المقدمة، ولا الخاتمة المباغتة غير المتوقعة. وحدها المعاني الكبيرة في صياغات فنية هي التي تنقذ النص من موته المحقق من نسيانه بعد ولادته ونشره على الملأ بوقت قصير.
إذن، المعاني الكبيرة هي لعبة الخلود، خلود النص وخلود مؤلفه حين يحسن توظيفها فنياً، في مجموعته القصصية القصيرة جداً (بصيرة البلبل)([1]) يطالعنا الحكاء الكبير (حنون مجيد) بمعانٍ كبيرة تدور في فلك ثيمة غابت عن الكثير من قصاصينا المحترفين، ألا وهي ثيمة (حيلة العقل) التي يتمتع بها كل إنسان، وخاصة عندما تحيق به المخاطر. وهي نوع من اليقظة تجاه أزمات وضعية معينة، فيتخذ العقل تدابير آنية وسريعة للخروج من المأزق، أو للتسلّل خفية خارج المصيدة النسقية للتخلص من الأذى المتربص به. بهذا المعنى، كانت (حيلة) العقل ملاذ شهرزاد في تخلصها من الموت، وملاذ أبطال حكاياتها في ألف ليلة وليلة، وملاذ كل الحيوانات الناطقة في حكايات (كليلة ودمنة) لابن المقفع، وبسبب استثمار تلك الحيوانات الناجحة لـ(حيلة العقل) تحولت إلى (أليغورات) (مرموزات ، أمثولات) عالمية.
تتألف المجموعة من (121) قصة قصيرة جداً. إذا استثنينا القصص التي اعتمدت على المفارقة الضدية الصادمة من نوع الـ(Paradox) ، والقصص التي اعتمدت على السخرية التهكمية المرحة من نوع الـ(Irony) ، سنكون إزاء أكثر من (75) قصة قصيرة جداً اعتمدت على معالجة ثيمة (حيلة العقل)، وبذلك سنفهم أن هذه الثيمة هي المهيمنة على المجموعة ككل.
(حيلة العقل) هي منطق المباغتة، وهي أيضاً منطق التوقي أو الاحتراز تجاه أية حركة عدائية ، وهذا لا ينفي أن المتمتع بهذه (الحيلة) يكون من البشر (المتميزين) اجتماعياً أو سياسياً، من دهاقنة الزمن الآفل ، أو من دهاقنة هذا الزمن، وهنا تكمن قوة القصة التي يكتبها (حنون مجيد) وقد حفلت بالإشارات المائزة والدلالات الكثيفة من بعدما استبطنت مواد أيديولوجية لا تخفى على القارئ الحصيف.
لنتمعن في منطوق قصة (البرهمي) وهي من أهم نصوص المجموعة: ((يمشي البرهمي في طريق الغابة، يجد نمراً محبوساً في قفص حديد، ترقّ له نفسه الرحيمة، فيفرج عنه بعد أخذ الأمان مع أولى خطوات النمر خارج قفصه يهمّ بالرجل، لكن اللجوء إلى تحكيم مجموعة من الحكام لم يشفع للبرهمي إلاّ مع الثعلب آخر المحكمين، حينما أعاد النمر إلى قفصه وأغلق بابه عليه. دهش البرهمي من فعل الثعلب مرتين، الأولى لأنه أنقذه دونما أجر، والثانية لأنه أول من استحدث نظرية الاستماع إلى المدعي والمدعى عليه في الغاب، وقاد الاثنين إلى حيث ساحة الصراع، لما سأل البرهمي الثعلب: لماذا فعلت ذلك يا حكيم؟ أجاب الثعلب بفخر: هذا لأنك برهمي منّي!)) (ص7).
ولا يخفى على القارئ أن البرهمي هو رجل الدين الهندوسي، والمادة الأيديولوجية التي زرعت في قلب النص، هي علاقة البرهمي بالثعلب الذي انحاز إليه، فرجل الدين هو من صنف الثعالب، وبذلك تكون المادة الأيديولوجية متوارية في عقل القصة، فهي لا تتبدّى، وإنما تتوارى في المقاصد الضمنية للفعل المسؤول عنه فاعل سردي، ومن حين للآخر تنكشف كوميض لتختفي على التوّ. تتبدى في الفرص أو المناسبات أو الخواتيم، أي الفُرَج الآنية للوجود. (حيلة العقل) وما يحيقها من مواد أيديولوجية هي نمط في المعرفة يشترك فيها نسيج من الوظائف الذهنية أو العمليات السلوكية تتخللها الاعتبارات الطفيفة أو الشفافة مثل المكر أو الخديعة أو الرؤية الثاقبة أو الحذاقة أو المهارة، وتنطبق على مستويات عابرة أو سياقات خاطفة دون سبق نظري أو برهان منطقي، وهذا ما نجده في قصة (البطل) وهي كالآتي: ((عندما قابلته تراخت أعصابي وكاد يُشلّ لساني، ومع ذلك جرؤت وسألته: سيدي العظيم، يشاع أنك لم تواجه خصماً إلاّ وصرعته، كيف يجري ذلك؟ ابتسم ابتسامة جليلة وطوقني بنظرة حانية، ثم بعد هنيهة قال: والله يا ابن أخي، ما قابلت رجلاً إلا وساعدوني على نفسه. أما أنا نفسي فلا أعلم!)) (ص5).
تشتغل ((حيلة العقل) في التخوم، وفي العتمة، ولم يسجل لها حضور في وضح النهار، وفي مراكز الأمكنة، إنها تشتغل في الطبقات السفلى من الوعي والإدراك، وتنسّق بين المتناقضات، فلها وجه إلى الشيء ووجه إلى نقيضه، إنها في متناول (الخير) في التصدي لعقبات الوجود في شكل مهارات أو مقاومات، وهي أيضاً في متناول (الشر) في تعدّي عتبات الآخر في شكل اختراقات أو دسائس.
الحيلة في جبهة المقاومة هي (تحدّي وتصدّي) وفي سلطة المراقبة والمعاقبة هي (تعدّي) وهي على الصعيد المعرفي، واقعة عملية تشتغل في جبهات عدة وتخترق معظم العتبات. إنها مهارة مبنية على التعدد أو الكثرة وتستهدف الفوز في سياق الممارسات، أي الظفر بهذا السياق قصد تحويل العجز إلى معجزة أو الوضعيات العسيرة إلى الفتوحات اليسيرة، ولنقرأ قصة (بصيرة البلبل) والتي صار عنوانها عنواناً للمجموعة ككل: ((يسمع البلبل يغرد على شجرة التوت، ويعرف أن له عشاً هناك، وأن له أفراخاً فيه. البلبل من علاه يرى الرجل يفتت أو يكور قطع الخبز وينثرها على الأرض . يعطف نظره نحو صغاره يضجون جوعاً، ثم يهبط به أسفل الشجرة ليكتشف القط كامناً له هناك.. يصبر البلبل على جوع صغاره، وينتظر اشتداد الجوع على القط، ليبحث عن طعامه في قمامة الرصيف)) (ص21)، وغيرها الكثير من هذه البصائر- الحيل التي تشكل دفاعات حقيقية ضد شر حقيقي.
([1]) بصيرة البلبل، قصص قصيرة جداً، حنون مجيد، دار غراب للنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، 2018. وكل الإحالات الواردة في هذه المقالة أخذت من هذه الطبعة وحسب أرقام الصفحات الواردة في المتن.