من أروع ما قرأته في “نهج البلاغة” عبارة توقفت عندها كثيرا، لما تحمله من جمال وكثافة في الدقة والمعنى. عبارة يمكن الاستعانة بها في تناول عدد غير محدود من القضايا والملفات الشائكة في حياتنا، لكنني اليوم احاول أن اسدد من خلالها الضوء على ما يمكن أن نطلق عليه بـ “جائحة الاكاذيب” وما يستجد منها من نسخ وسلالات وسرديات تثقل كاهل المجتمعات المبتلاة بها. لاسباب وعلل موضوعية وذاتية وشروط تاريخية فرضت علينا كم هائل من التشرذم والهوان؛ وجدت شرائح وملل وطوائف هذه المجتمعات نفسها تلجأ الى احاطة نفسها بجدران من الاكاذيب والسرديات التي تدفع عنها “شر” الآخر المختلف، ومع مرور الزمن تورمت تلك التراكمات لتتحول الى شرنقات صلدة تحجب مرور اي بصيص من الضوء اليها. مثل هذا التمترس بالسرديات المفبركة وفقا لحاجات التهديد الذي تتوهمه تلك الشرنقات التي عنون الكاتب امين معلوف احدى اشهر كتبه باسمها “الهويات القاتلة”؛ سيبقى حاجزا شديد الفاعلية أمام اية محاولة لمد الجسور بين هذه الكانتونات المغلقة والمثقلة بحمولات وقناعات انتهت صلاحيتها منذ قرون.
من دون الالتفات لمثل هذه الحمولات الكارثية ووعي دورها الفعلي فيما انحدرنا اليه من عجز وهوان، ومن ثم الشروع بنشاط واسع ومتعدد المستويات للتخفف منه؛ لا يمكن تحويل كل هذه المفردات والعناوين والشعارات الحداثوية التي نجترها من دون وجع من عقل وتدبير، الى واقع في حياتنا العملية. لقد كشفت معطيات عراق ما بعد العام 2003 عن مكانة ودور هذه الحمولات في العجز والتيه والضياع الذي عصف بكل تفاصيل حياة الدولة والمجتمع، ولا يحتاج المتابع الحصيف لكثير من الجهد والذكاء، كي يكتشف اثر ذلك لا لدى عامة الناس وحسب، بل بشكل واضح وسافر في القسم الاكبر من المنتسبين لنادي الانتلجينسيا، حيث تفنن الكثير منهم في فتل عنق المفاهيم والعناوين والمفردات الحداثوية الى اصطبلات ذلك الارث العريق من الضغينة والشك والثارات والاحقاد. جيش عرمرم من حاملي العناوين الاكاديمية والعلمية العليا، ومن مشاهير الادب والثقافة والفن وغير ذلك من جنرالات المهن والاختصاصات المعنية بالفكر والنظرية والتجريد؛ ينخرط بحماسة وقوة فيما طفح في المشهد من كرنفالات وحفلات تنكرية، تعيد اجترار وتدوير ما اثقلتنا به حقب العبودية والتشرذم من سرديات وعقائد واولويات.
الغالبية منا تشكو وتتذمر من الحال والاحوال وقلة حيلتنا في مواجهة ما تلقيه علينا الاقدار؛ من مصائب وكوارث واهوال، لكن من دون أن يكلف نفسه في الالتفات الى ما يعيقه هو نفسه عن الحركة والانطلاق بعيدا عن مثل هذه المصائر. لا يلتفت الى شرنقته وما تفرزه من سرديات مجتره وحمولات مسبقة واجابات جاهزة في التعاطي مع الوقائع والاحداث، ولا يجد في نفسه الشجاعة ليكتشف حقيقة كونه جزء من منظومة الركود والتشرذم التي تقف خلف كل ما يتذمر ويشكو منه. عندما لا نعي اهمية وضرورة التخفف من وزر هذه الحمولات الفردية والجمعية، وبالتالي تحويل ذلك الوعي الى برنامج عمل واسع ومتعدد الجبهات؛ لا يمكن انتظار ولادة اي نشاط جاد وديناميكي للحاق بركب الامم التي وصلت لسن التكليف الحضاري؛ بعد حزمة من الثورات والزحزحات التي اطاحت بذلك الارث الثقيل من سرديات الدمار الشامل ومنظومات العبودية والركود والاذلال المعجونة بكم هائل من الاكاذيب والاضاليل…
جمال جصاني