محمد زكي ابراهيم
كنت أعتقد إلى وقت قريب أن رموز الثقافة هم إما شعراء مهووسون بالحرف، أو روائيون مغرمون بالحدث، أو فنانون مولعون بالصوت أو الصورة، أو مفكرون مفتونون بالعلل والأسباب والأسانيد، وغير ذلك من أمور.
وكنت أظن أن وجود هؤلاء هو الشرط الأساس لبناء حضارة إنسانية في هذه البلاد، أو في غيرها. وبدونهم لا يمكن أن تتقدم، أو تنمو، أو تنهض من كبوتها. فهم بحكم التعريف المتداول للثقافة، أي ما تفرزه الفعاليات الأدبية والفنية من نشاط، هم الذين يصنعون الجمال والمتعة في هذه الحياة.
ويقف في مقدمة هذه الفعاليات، ذلك الجانب المعني بالبحث والتحليل، والمقارنة والاستنتاج، والتنظير والتجريد. والرجال الذين شغفوا به، هم الذين بنوا مجد العالم المتقدم، وهم الذين شغلوا الناس، وطوروا معارفهم عن هذا الكون.
وبناءً على هذا الافتراض فقد شغلنا نحن بهذه النظريات، وتعصبنا لها. ودخلنا في معارك جانبية، ونزاعات سياسية، ومناوشات فكرية. لكننا لم نحقق شيئاً، ولم نستطع أن نحدث أي تغيير يذكر، في حياتنا اليومية. وكالعادة انبرى من هؤلاء “الرموز” من ينظر لهذا الإخفاق، ويبرر هذا الفشل. فالأدوات التي يحتاجها “الرمز” جاهزة لديه على الدوام!
لكن الواقع أن هناك شعوباً لم تعن بهذا الجانب، ولم تعر له أي اهتمام. ومع ذلك بلغت الذروة في الحضارة، والرفاهية، والوعي. وباتت منافساً حقيقياً للشعوب التي أنتجت تراثاً ضخماً من الأفكار والنظريات والفلسفات.
إن اليابان، وكوريا، وسنغافورة، وتايوان، وماليزيا، وسواها من بلدان شرق آسيا، لم تنشغل مثلنا بالنتاج العقلي الأوربي. ولم تتصارع من أجل الماركسية أو الوجودية أو البنيوية أو المثالية أو الوضعية، أو غيرها مما لا يمكن حصره. لكنها عنيت بإنشاء المدارس، والورش الصناعية، ومزارع الغلال، وحظائر الحيوانات والأسماك، وحاولت تقليد المنتجات الغربية، حتى باتت في أقل من نصف قرن نموراً اقتصادية كبرى.
إن الفلاح الأمي الذي يخرج في الصباح الباكر كل يوم، يحرث الأرض، ويسقي الغرس، بيده الخشنة المعروقة هو صانع ثقافة من الطراز الأول. فهو يطور أساليب العيش، ويبتكر وسائل البقاء. ولا عجب فمصطلح الثقافة نحت في البدء من اللفظ اللاتيني للزراعة.
كما أن العامل الماهر الذي يقف خلف الآلة، ويقوم بتشغيلها، ويخرج منها سلعاً وأدوات، هو رمز ثقافي كبير. لأنه يسهم في بث روح الأمل والتفاؤل والقوة في المجتمع الذي يعيش فيه.
لقد شغلنا كثيراً بالجانب الفكري من الثقافة. وبتنا غير قادرين على الخروج منه. بل إننا أصبحنا أكثر ولعاً فيه من أصحابه، الذين هجروا مفرداته، بل وسخروا منها أيضاً.
لنتذكر هذا ونحن نبحث عن مقعد لنا بين الأمم. ولنعلم أن ليس بالحرف وحده تتقدم الشعوب. وأن الجهد والعرق والجدية والشعور المفعم بالمسؤولية، هي الثقافة الحقيقية التي نحتاج لها الآن. وما سوى ذلك ترف قد لا نحتاجه الآن!