عبد علي حسن
كان لظهور العلوم التجريبية وتطور العلوم الطبيعية في القرن التاسع عشر أثر في تجفيف الينابيع الروحية بين الله والفرد والكنيسة. الأمر الذي دفع بالفيلسوف الألماني ( نيتشه ) إلى استخدام مصطلح ( موت الإله ) في مؤلفه الشهير ( هكذا تكلم زرادشت) وتقييد مهمته في الحدوث لا البقاء ، ولعل الاستخدام المجازي لمفردة الموت قد فتحت الباب وبذرت بذرة التماهي بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية بما فيها الفلسفة ، وهو مأسوف لنيتشه استخداما مجازية لمصطلح ( الجينالوجيا) وهو من المصطلحات العلمية التي تعنى بإصول النباتات والحيوانات ، فكتب ( جينالوجيا الأخلاق ) وتبع ذلك في القرن العشرين استخداما مجازيا لهذا المصطلح في تتبع اصول المعرفة من قبل فوكو فأصدر كتابه المعروف ( جينالوجيا المعرفة) وبدأت سلسلة من تتبع الأصول كما في ( جينالوجيا الرواية ) لباختين وجينالوجيا النص ….. الخ ، وتبع ذلك جملة من المفاهيم التي استخدمت مفردة الموت مجازيا لتشير إلى مفارقة الأصول وقواعدها ، متجاوزة المفهوم المتداول حول الموت السريري ، فكان موت الحداثة/ موت الرواية / موت المؤلف/ موت الإنسان / موت التأريخ / موت الوطن/ وكل هذا الاستخدام المجازي يقابله مصطلح الـ ( مابعد) في إشارة إلى المفارقة لأصول الـ ( ماقبل) أي عدم القدرة على الاستمرار وفق القواعد السابقة التي تمنح الخصائص المتفردة والتي في ضوئها يحوز الشيء هويته الاجناسية/ الدينية/ الوطنية / الشخصية وكل مايتعلق بوجوده القار والمتعارف عليه، لذا فإن كل موت يعني نفي الخصائص وظهور خصائص جديدة مغايرة ومفارقة الخصائص القديمة ومضادة له، لأنها ستنوجد من هذا التضاد ونتيجة له ، موت الحداثة تعني فشل مشروع الحداثة في إقامة مجتمع المساواة والإخاء والرفاهية التي دعت إليها السرديات الكبرى ، لذا فإن موت و/ أو بعد الحداثة تميز بنقضه السرديات الكبرى , وطرحت بديلا هو الاهتمام بالسرديات الصغرى وإشاعة مفاهيم قبول الآخر ، ومقولة بارت البنيوية الشهيرة تشير إلى تقويض المناهج السياقية والنفسية والتأريخية التي اهتمت بالمرافق وحياته الشخصية والنفسية والفكرية للمؤلف. وطرح البديل البنيوي لينسحب الاهتمام بالنص كبنية مستقلة عن خارجها ، إلا أن مناهج ما بعد البنيوية قد أعلنت عن موت البنيوية وإيجاد مناهج تهتم بالمتلقي الذي أقصته البنيوية لبسهم في عملية إنتاج النص وأبقت على موت المؤلف ، تبعا للتطور الحاصل في خصائص نص ما بعد الحداثي والتقدم الحاصل في مرجعية المتلقي المعرفية والجمالية ، وظهور المشروع الفلسفي والاجتماعي لعالم الاجتماع البولندي زيجموند باومن الذي تشكل في ( الحداثة السائلة ) المصطلح الرديف لمصطلح ما بعد الحداثة التي يعدها باومن مع هابرماس مصطلحا زمنيا يشير إلى مرحلة جديدة منقطعة عن مرحلة الحداثة ، وأشارت إلى أن الحداثة بدأت ولن تنتهي وما يطرأ عليها أن هي إلا تطورا في الفكر الرأسمالي ونتيجة لمرور الرأسمالية في مرحلتها الأخيرة التي كانت سببا في ظهور العولمة التي كرست النمط الاقتصادي والثقافي _ الأمريكي والأوروبي تحديدا _ ليتحول الإنسان إلى سلعة استهلاكية ، لتكون هذه الاستهلاكية هي هويته الجديدة ، ولتعاني المجتمعات من خارج جغرافية الحداثة من الهوية الضائعة وطنيا وقومية ودينيا بفعل ثقافة العنف التي تغذيها العولمة ، ونتيجة لذلك يعلن باومن عن موت الإنسان لافتقاده إلى أبسط الخصائص الانسانية، واكتفي بهذه الأمثلة الثلاثة للإشارة إلى معنى الموت المجازي الذي استخدم للتعريف بالخصائص الجديدة المفارقة والمضادة مع الخصائص القديمة ومغادرة القواعد الأصولية السابقة التي تمنح الشيء وجوده القار والمتعارف عليه ، لذا فإن ما يتعرض إليه الشيء من محاولات تقويض ومفارقة ومغادرة ضدية سينجم عنه وضع جديد ، وإزاء ما يتعرض إليه الكوكب من تهديد للوجود الإنساني بفعل تفشي جائحة ( كورونا) فإن أغلب التوقعات من قبل الفلاسفة وعلماء الاجتماع المعاصرين وحتى السياسيين ، تشير إلى إمكانية حصول تحولات كبيرة على صعيد المجتمع والاقتصاد والفكر تبعا لمعطيات الواقع الذي أفرزته الجائزة, وهذا يعني أن العالم مقدم على تحول بنيوي خطير ، يتم فيه نسف الخصائص القديمة التي مثلت الوجه البشع العولمة ، بعد تفكيك المؤسسات السياسية والاقتصادية التي أقامتها الرأسمالية المتأخرة ، ووفق ذلك سنشهد ،(موتا) جديدا لقلق الهوية و ثقافة العنف والتي عدت من خصائص نص مابعد ،،/ موت الحداثة ، وسيكون هناك موت لكل الموجهات الفكرية التي قامت عليها العولمة ، ليظهر الدور الوطني الجديد للثقافة عبر زحزحة الساكن والثقيل في التراث الفكري وإعادة قراءته وبما يضمن تحقيق النقلة والتحول لتحديث البنية الاجتماعية والفكرية والسياسية ، ونرى أن ما يحصل الآن هو المقدمات المنضوية السليمة لوضع المجتمع على أعتاب مرحلة بعد ما بعد الحداثة ، أو مرحلة ما بعد العولمة التي وجدت المجتمعات الإنسانية من خارج جغرافية الحداثة نفسها مرغمة على أن تكون جزءا من نظام العولمة ومنها مجتمعنا العربي ، لذا فإن هذه التحولات هي المقدمات التي لم تتوفر لحركة الاحياء والنهضة العربية في أوائل القرن الماضي مما أدى الى توقفها لعدم تمكنها من خرق الثابت والمؤسس واقتراح إعادة قراءته ، وإزاء هذه الظروف الجديدة التي يمر بها كوكبنا فإننا سنشهد مرحلة تأسيس لفواعل فكرية واجتماعية منفتحة على ما هو مضيء في التراث وعلى ما يستجد من تحولات فكرية عالمية دون الإحساس بانغلاق الهوية وعقدة الإحصاء الذهني التي كرست الفكر الغربي البرجوازية لعقود طويلة تمتد منذ أواخر القرن التاسع عشر وتشكل أطماع الغرب في المجتمع العربي ، فظل هذا الفكر يفكر نيابة عنا ويقترح إجراءاته ، وإذا ما تم ذلك فإن الوقت قد حان لتقويض دوغماتية الخلاف أيا كان نوعه.