فوزي عبد الرحيم السعداوي
-16-
يحتل الأكل أهمية خاصة لدى العراقيين الذين يبالغون بالاهتمام به واضعين نصب أعينهم اللذه على حساب الفائدة ، فالأكل العراقي لذيذ لكنه لا يراعي الناحية الصحية وفي الماضي كنت أتصور ان لذة أي مطبخ في العالم هي نسبية أي ان كل أكل هو لذيذ لدى أهله لكني اكتشفت ان الأكل العراقي لذيذ بشكل استثنائي بعدما تعرفت على المطبخ الأميركي وبعد ان رأيت رد فعل الأميركان عند تذوقهم لمفردات مطبخنا الذي هو مزيج من الدهشة واللذه.
في شارع الرشيد وبالذات في المنطقة التجارية محط اهتمامي والتي تمتد من شارع المتنبي إلى سوق التجار مرورا بمنطقة الرصافي وسوق الصفافير حيث تنتشر المطاعم بشكل كثيف لتغطي النشاط الاجتماعي والتجاري المزدهر في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كان مطعم تاجران من أعرق وأشهر المطاعم وهو يختص بتقديم الكباب والكص بشكل أساس مع انه يقدم الأكلات التقليدية اضافة إلى أكلات أخرى مميزة مثل قوزي الشام وكان يقع قرب شارع المتنبي قبل ان ينتقل إلى ساحة الأمين (الرصافي) لاحقا لكن في العام ١٩٥٨ ظهر مطعم جديد منافس تميز بتقديم صحن مختلط من الكباب والكص بطعم خاص جدا مع صحن من الطرشي النجفي اللذيذ في شارع المتنبي.
في المنطقة التي تحولت لاحقا موقف سيارات الرصافي كان هناك مطعم صغير يقدم البورك كوجبة فطور فقط ب٣٥ فلس ليغلق محله قبل ظهر اليوم، وفي الباب المعظم مقابل دار الطلبة ثمة مطعم صغير يقدم التمن والمرق بطريقة شي فوك شي وبسعر هو ٥٥ فلسا في حين سعره في المطاعم هو ١١٠ فلسا.
في منطقة المصارف وسوق التجار وشارع النهر حيث ذروة الحركة التجارية انتشرت مطاعم باطباق متنوعة جدا، ففي شارع السمؤال وبعد عشرات الأمتار داخل فرع على اليسار ثمة محل صغير شهير يبيع سندويجات الهمبركر والجبن، كان يبيع سفري فقط.
داخل سوق التجار كان هناك محل يقدم نوعية مميزة من الكاهي وكان المحل يعمل من داخل مبنى تراثي قديم وكان معروفا بوجود شقيق صاحب المحل الأخرس الذي يقدم الأكل لكنه يقوم ببعض الحركات المضحكة
كما كان هناك قربه من يقدم الباقلاء والدهن منذ الصباح الباكر بحيث ينتهي عمله في الساعة التاسعة صباحا، محل الباقلاء والدهن كان عبارة عن درج في بناية.
في عمق سوق التجار وباتجاه الجامعة المستنصرية كان هناك محل يبيع الكبة الصغيرة (المدعبلة) وبطعم مميز جدا مع اقبال واسع بحيث بنتهي نشاط المحل قبل الظهر بوقت طويل، ميزته ان الاكل ياتي من البيت حيث تقتصر مهمة المطعم على تسخينه عند الحاجة، في قلب سوق التجار وعلى مساحة فارعة من أرض السوق كان أبو عدنان يقدم التمن والمرق والقوزي وسط اقبال شديد، قرب محل الباقلاء والدهن بوجد المطعم العصري الذي يقدم القوزي على تمن فقط.
في شارع السمؤال كنت أرتاد أثناء فترة عملي بالمحل منتصف السبعينيات لغرض الغداء مطعم متخصص بالشاورمة التي يعدها المطعم بطريقة خاصة لم يسبقه أحد إليها، ولم أك أمل من تكرار ذلك كل يوم، على شاطىء دجلة القريب كان قاسم يأتي عند الفجر ليبيع التكة فقط كفطور حيث الاقبال الشديد عليه يسمح له بنهاية مبكرة تتراوح بين العاشرة والحادية عشرة صباحا، من الأمور الطريفة ان رجلا كرديا طاعنا في السن يحتل مساحة صغيرة على الارض متخصص باللوبياء وملحقاتها من طماطة وبصل وملحقات أخرى، كان يقدم في صينية اللوبياء المسلوقة المقلية وبسعر عالي لكن زبائنه لم يشكو أبدا من غلاء السعر.
في الطابق الأرضى من بناية الدفتردار كان هناك مطعم للكباب اشتهر بدقة عمل أصحابه ونظافتهم وجودة كبابهم، في سوق التجار أفتتح لاحقا مطعم الكمال الذي يقدم أكلات بغدادية متنوعة بعد ان أغلق مطعم العصري القربب لأسباب أجهلها برغم انه كان يتمتع بسمعة واقبال جيدين.
قريبا من المصارف وقبل ماسمي لاحقا ساحة الغريري كان مطعم الخيام يقدم وجبات متنوعة وعلى مدار اليوم، لاحقا أفتتح مطعم الربيعي الذي يقدم النواشف بانواعها ويقع في منطقة العمار، في الشورجه وخلف جامع مرجان كان هناك مطعمين متجاورين للكباب والتكة سرعان ماأغلقا أيضا بسبب تصاعد أسعار السرقفليات الناجم عن زحف وتمدد السوق الإيراني، في التسعينات افتتح شقيقي مطعم السوق العربي الذي كان بقدم الاكلات البغدادية لكنه أغلق برغم نجاحه لاسباب عديدة. في عقد النصارى او سوق الكهربائيات توجد مطاعم تلبي حاجة السوق، في ثمانينيات القرن الماضي افتتح الفنان الراحل راسم الجميلي مطعما راقيا لكنه لم ينجح.
في الميدان حيث تجمع طلبة الكليات من أبناء المحافظات وبعض الطلبة العرب كان مطعم أربيل الشهير يقدم الكباب الذي ذكر ان الزعيم عبد الكريم قاسم كان يرسل في طلب بعض الوجبات منه بين الحين والآخر عندما يكون لديه ضيوف حيث هو في الأوضاع العادية يأكل مايرسله بيت أخيه من أكل في “سفرطاس” وعادة هو التمن والمرق، قرب مطعم أربيل كان مطعم كركوك يقدم خدمات خاصة للطلبة إذ يزودهم بكوبونات خاصة يدفعون ثمنها رأس الشهر أو عند وصول التحويلات للطلبة العرب، كان الكص على تمن أفضل وجبة يقدمها المطعم.
لاحقا أفتتح في الثمانينات مطعم ابن سمينة ويقع في شارع السمؤال، واشتهر مطعم يقع في سوق القماش باكلاته البغدادية وهو مطعم أبو حقي اضافة لمطعم للكباب يديره أكراد سطوا على أسم كباب أربيل وكان يقع على بعد خطوات من محلنا لكنه لم يكن بتلك الجودة، في الثمانينيات أفتتح مطعم صغير للكباب فقط حقق شهرة كبيرة لكنه أغلق بسبب ارتفاع أسعار السرقفليات وتمدد محلات ملابس الجملة الممتدة من تحت التكية، المطعم كان يقع في الجانب المقابل لسوق الصفافير، على بعد بضعة عشرات الأمتار أفتتح مطعم ضخم باسم باب الأغا مالبث ان أغلق.
لم نعرف في فترة الخمسينيات الفلافل وحتى في الستينيات لم تكن أكلة الفلافل منتشرة عدا فلافل أبو سمير في شارع سينما الخيام حيث مازال قائما اضافة لمطعم فيومي في الباب الشرقي.
ملحق عن الشاي
معروف عن العراقيين حبهم للشاي الذي لايستغنون عنه حتى خلال أيام ترتفع فيها درجات الحرارة في تموز واب بل تجدهم يتناولوه في الشارع وتحت أشعة الشمس المحرقة، تنتشر “وجاغات” الشاي في شارع الرشيد حيث يندر ان يوجد مطعم دون ان يكون قربه جايجي، في منطقة المصارف وعلى بعد خطوات من محلنا وفي أواسط السبعينيات كان كاكا عمر قد فتح له وجاغا يتكا على مطعم الكباب القريب منا، كان عمر شخصا جادا في عمله مخلصا في ان يقدم شيئا جيدا فبرغم ان الشاي ليس صنعة معقدة ولاتحتاج لمهارة خاصة الا ان الأمر مع عمر كان مختلفا فهو ياتي للمطعم في الصباح الباكر حيث الظلام مازال مخيما وقبل بدء حركة الشارع فيقوم بفتح أكثر من صندوق من صناديق الشاي السيلاني الفاخر الذي كانت تستورده مصلحة المبايعات الحكومية ويقوم بتجريب عدة خلطات إلى ان يقتنع باحدها.
في ساعات الصباح وكذلك وقت الغداء يتجمع الناس وجزء كبير منهم من موظفي المصارف القريبة وديوان الرقابة المالية حاملين الترامس لملأها بشاي عمر الذي عدا عن تميزه كان شخصية لطيفة وذو نفس كريمة واجتماعي سعر استكان الشاي هو ١٠ فلوس لكن مع ذلك فان عمر كان يعيش برفاهية اضافة ليده السخية في مساعدة الآخرين، آنذاك كنت شابا مشاكسا، حيث لعلمي بحساسية عمر من أي شكوى أو همس بشأن نوعية شايه كنت أشكو له سوء طعم الشاي فيقوم على الفور برمي كل محتويات سماوره الكبير من الشاي في البالوعة، كان عمر نموذجا لطبيعة الناس في ذلك الوقت حيث احترام المهنة والإخلاص لها واجادتها مهما كانت بسيطة.