حازم الأمين
ليس مهماً إذا كنا نتوهم وجوده، ذاك أن الفارق بين وجوده وبين توهم وجوده سيكون صفراً. هناك على ذلك الرف في السوبرماركت ثمة فايروس، أو في ذلك الرف لا يوجد فايروس، ما الفارق؟ لا شيء، ولا شيء أكيد أصلاً!
السبيل الوحيد لمقاومة الفايروس هو أن نصاب به. المرض هو عدو «كورونا»، والجسم يتحفز لحربه مع هذا الكائن الميكروسكوبي في اللحظة التي يستقبله فيها. النجاة من هذه المتاهة لن تتحقق من دون هذه المواجهة. مواصلتنا الهرب من شيء لا نراه ولا نشعر بمجيئه أو بعبوره من جوارنا، هي فعل عبثي وغير شجاع. لا مناص من المواجهة المباشرة، والعالم إذ يواصل هربه، فإنه بذلك يوفر فرصة للفايروس لكي يمعن في القضاء علينا.
كورونا يقتلنا ليس لأن أجسامنا أضعف من أن تواجهه. يقتلنا لأنه يُذهِب عقولنا، ولأنه يطيح بتوازننا. فهل من هذيان أوضح من حقيقة أننا صرنا نعبر شارعاً متخيلين قطعاناً من الفايروسات تعبر الرصيف المقابل، وأن علينا ألا نشيح النظر عن شيء لا نراه. هناك في زاوية ذلك المبنى ربما أنشأت الفايروسات عُشها، وذلك البائع الذي دأب على غسل يديه بالمعقمات ربما هرب فايروس واحد منه إلى حبة البندورة التي باعنا إياها.
الفايروس هو غير المرض الذي أصابنا جراء تسلله إلى حناجرنا. المرض هو عدو الفايروس، وليس الفايروس. وما أن يحل المرض فينا حتى تبدأ المقاومة الحقيقية لكورونا. العزل هو انتصار لكورونا، والمرض هو بداية انتصارنا عليه. المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قالت إن الفايروس سيصيب أكثر من 50 مليون ألماني! إذاً سيكون شرط القضاء عليه هو أن ينتصر المريض على الفايروس. غير المصابين لن يتمكنوا من تحقيق الانتصار على كورونا، فكيف ننتصر في حرب لم نخضها؟ ومن هنا تولد فكرة المناعة. اكتساب المناعة لن يتحقق من دون تخصيبها بالمرض الذي عليها مواجهته.
الفايروس يملك قوة الشائعة، وتأثيره لا يفوقها قوة، ذاك أن للشائعة قدرات مشابهة على الفتك بيومياتنا وبأنماط عيشنا. هو مثلها يملك قوة انتشار غير مرئي وغير محسوس، ولا سبيل لتفاديه
ربما يجب ألا تنطوي هذه الفكرة على دعوة إلى كشف صدورنا واستقبال الفايروس، لكن ثمة استحقاقاً علينا مواجهته. يجب استدراج الفايروس إلى منطقة نحن أقوى منه فيها. فهو لا يسعى إلى القضاء علينا، إنما القضاء على شيء فينا. موتنا يعني موته، وهذا ما لا يتمناه هذا الكائن غير المرئي وغير الموجود. هو يسعى إلى القضاء على ما نمثله من حضور ومن عبور من رصيف إلى رصيف، ومن منزل إلى منزل، ومن رجل إلى امرأة. الحرب معه يجب أن تكون هنا، وليس في أي مكان آخر.
الطبيب محق حين ينصحنا بالانعزال، لكنه أيضاً يمارس أنانيته ورغبته في خوض الحرب مع الفايروس لوحده. أن ينتصر عليه باللقاح وليس بقرار صلب بالمواجهة. الطبيب لا يريد شهداء في هذه الحرب، يريد نصراً تحققه المعرفة لا الفلسفة. أن ننفصل عن الفايروس نحن الذين نحتضنه، فإن ذلك لن يكون انتصاراً للعلم، ولن يكون أفقاً لشفاء عادي وعابر. لكن في المقابل، أن ننفصل عن الفايروس وهو مقيم في أجسامنا، خير لنا من أن نخوض متاهة تجنبه والهرب المتواصل منه. فهذا الهرب جعله موجوداً في كل مكان. ليس مهماً إذا كنا نتوهم وجوده، ذاك أن الفارق بين وجوده وبين توهم وجوده سيكون صفراً. هناك على ذلك الرف في السوبرماركت ثمة فايروس، أو في ذلك الرف لا يوجد فايروس، ما الفارق؟ لا شيء، ولا شيء أكيد أصلاً!
هذه المتاهة «الفلسفية» لن تمضي من دون مواجهة مباشرة، ومن دون أن يتولى المرء بنفسه مهمة تحقيق انتصار. الانتصار الافتراضي يجب أن يسبق الانتصار العلمي. على هذا النحو يمكننا تفادي المزيد من الخسائر، والمزيد من الأثمان في عزلتنا.
قوة الفايروس لا تكمن في تفوقه على أجسامنا، فالأطباء حسموا قدرتنا على هزيمته، بل تكمن في سرعة انتشاره. هذا ما قاله الجميع. الموازي غير العلمي لهذه الحقيقة العلمية، هو أن الفايروس يملك قوة الشائعة، وتأثيره لا يفوقها قوة، ذاك أن للشائعة قدرات مشابهة على الفتك بيومياتنا وبأنماط عيشنا. هو مثلها يملك قوة انتشار غير مرئي وغير محسوس، ولا سبيل لتفاديه على ما قالت ميركل. وهو إذ أصاب هذا العدد الهائل من سياسيي العالم، فهو بفعلته هذه يقول انه لا شيء سوى أنه نوع مخصب من الشائعات. فالفارق بين الشائعة والحقيقة يضيق ويتلاشى، عندما تقع الإصابة.
ليست هذه دعوة عبثية للذهاب إلى المرض على أقدامنا، بل محاولة تفكير من داخل العزلة، ومحاولة للذهاب بالعزلة إلى ما بعدها. يجب ألا يحتكر الأطباء النصر على الفايروس، فهو لم يفتك بالأجسام، على نحو فتكه بأنماط عيشنا وبرغباتنا وأعمالنا وجامعاتنا ومدارسنا. الثمن للأطباء سيكون كبيراً إذا ما نجحوا في احتكار الانتصار. ربما سيفرضون علينا رئيساً من بينهم، ذاك أنهم أنقذوا كل شيء، إذا ما أوجدوا لقاحاً أو دواء. يجب أن نسبقهم وأن ننقذ شيئاً لنكون شركاءهم في مرحلة ما بعد «كورونا».
- عن موقع درج