في ما بعد الستين أصبح من حقي أن أروي (بطولاتي)،مثل كثير من صنّاع التاريخ،الحقيقيين والزائفين،فأقول أنني عرفت الكثير من الشخصيات البارزة،وعايشت الأحداث واطلعت على الأسرار،ويمكنني أن أروي من الذاكرة قصصاً ومواقف لا تحصى،فقد حدثني جدي عن أيام شبابه ومشاركته في صد الغزو البريطاني للعراق،خلال الحرب العالمية الأولى،مطلع القرن العشرين،ثم تطوعه في صفوف المجاهدين في ثورة العشرين،ومشاهدته قصور الملوك الهاشميين الثلاثة، بعد تأسيس المملكة العراقية،ونهاية الملوك الحزينة!
أما والدي فتعود ذاكرته التي ورّثني بعض تفاصيلها إلى عصر الثورات والانقلابات،بعد إسقاط النظام الملكي،فقد عاش سنوات شبابه في تلك المرحلة المضطربة،حيث ولدتُ بعد ثورة (الزعيم كريم) بعدة أشهر،وعندما أُعدم الزعيم الأوحد في 9 شباط عام 1963،حضرت مفرزة من الحرس القومي لتفتيش بيتنا الصغير، ووجد المسلحون قميصي(تي شيرت أحمر) معلقاً على حبل الغسيل، فاعتبروه، إلى جانب صورة الزعيم المخفية، دليلاً كافياً لاتهام والدي بالانتماء للحزب الشيوعي، ومن ثم مطاردته وهروبه إلى قريته في ريف العمارة!
وفي ما يخص صولاتي الشخصية عند طفولتي، فحدث ولا حرج،فقد شاهدت الزعيم يمر بسيارته في شارعنا، وقد ترجل ثم صافحني ومضى سريعاً عندما كنت أمتطي (البايسكل)،ثم بعد سنوات شاهدت الطائرة الهيلوكوبتر التي تنقل الرئيس عبد السلام عارف وبعض مساعديه متوجهة نحو البصرة،وقد ذهب ولم يعد،فقد سقطت الطائرة بمن فيها،وكنا نلعب ونهتف( سلام ما سلم،صعد لحم نزل فحم)!
يمكنني صناعة تاريخ من هذا النوع يجمع بين الحقيقي والمختلق،ففي شبابي وكهولتي أستطيع أن أروي حكايات خرافية عن الحرب والهجرة والظلم والجوع،ويمكن لإحدى الفضائيات الاتفاق معي على سلسلة من الأحاديث الشيقة التي تمزج بين الحقيقة والخيال،في سرد تاريخ،بلا شهود ولا وثائق،وذلك مثل كثير من المتحدثين الذين تستضيفهم القنوات،فيسرحون في فضاءات الذكريات،بلا حدود!
الجلوس أمام الكاميرا،والظهور على وميض الشاشة الزئبقية،قد يغري الكثيرين بالحديث الشخصي،وتضخيم الذات وتكبير الأحداث،والمبالغة في الأدوار والمواقف،من خلال الاغتراف من ذاكرة مشوشة،في ما يسمى(التاريخ الشفهي) الذي يشبه سوالف جداتنا الرائعات،لكنه تاريخ مصبوغ بألوان الدم والدموع في عالم السياسة والحكم والحروب والصراعات على المناصب حتى الموت أو المشنقة!
قنوات تلفزيونية عديدة وجدت في حكايات الشهود مادة مرئية يتابعها الجمهور المحروم من الحقيقة التي يرغب في الاطلاع عليها، ولو بعد حين،حيث وقعت الواقعة،وفات الأوان،ولم تعد مصائر الناس سوى قصة تروى من قبل اشخاص وضعتهم الأقدار في مركز القرار أو قريباً من كراسي الكبار،فراحوا يستعيدون من الذاكرة تفاصيل مخبأة وأسماء غائبة وأحداث جسيمة، لعل فيها عبرة لمن يعتبر، وما أقل الآعتبار!
الحديث عبر الشاشات،قد يشكل مصدراً مساعداً في كتابة التاريخ،أو يفيد في استرجاع بعض وقائعه وتحليلها وفهمها،بعد أن غُيّبت الحقائق طويلاً في دهاليز الحكام،ولكن علينا أن نستمع بحذر ونشاهد بوعي،فليس كل ما يقال قد وقع فعلاً،وإن الذاكرة لا يعتمد عليها دائماً، وبخاصة في الشيخوخة،وحتى لو كان المتحدث بطلاً حقاً،وقد شارك في صناعة بعض صفحات التاريخ،فلا شك أنه يروي تاريخه الشخصي ويعبر عن وجهة نظره،ويصور القصص من زاوية مصلحته، وهو يتجاهل تاريخ غرمائه وضحاياه الكثيرين،فالتاريخ لا يكتبه شخص واحد..وهناك شهود آخرون!
د. محمد فلحي