عبد الكريم قادري
يستمد الفيلم الوثائقي الأردني «أرواح صغيرة» 2019، لدينا ناصر، شرعيته التوثيقيّة من خلال مصاحبة مخرجة العمل للعيّنة التي سلّطت عليها الكاميرا لمدة تزيد عن الأربع سنوات، سجّلت من خلالها مئات من الساعات التي تخدم موضوعها وتآزره، وبعد المعاينات الفنية والمونتاج اقتطعت 85 دقيقة فقط، وهي المدة الزمنية للفيلم، والتي كانت كافية لدينا ناصر حتى تقبض فيها على لحظتها السينمائية، صنعت من خلالها سلّما ليصعد به المشاهد إلى علياء مخيّم الزعتري، ليقف ويُعاين ويرى ما تمر به العائلات السورية التي هربت من جحيم الحرب وويلاتها، إلى أماكن كانت تعتقد بأنها ستكون بردا وسلاما على أولادها، لكن خاب الرجاء وضاعت الأمنية في وحل تلك المخيمات وسيوليها، في بردها وحرارتها، على سيّاجها الحديدي الذي يحيط بهم من كل زاوية، ليتحوّل هذا المخيم المسيّج والمحروس إلى سجن كبير يحطّم الأحلام ويجتثها.
تورط المخرجة عاطفيا مع موضوعها كان واضحا، هذا التورط سمح لها أن تخلق فيلما مليئا بالدفء والحميمة، بعد أن تفاعلت مع كل تفاصيله ولحظاته، وكأنّها أصبحت جزءا من هذه «الثيمة»، إذ لم تتخلَ عنه برغم المطبّات التي صادفتها في كل تلك السنوات، بل زاد التصميم أكثر، وتتبعت خيوط المشروع إلى أن وصل لآخره، لتقدمه في شكله النهائي تحت عنوان «أرواح صغيرة»، برغم أن مصائر بعض أبطال العمل ما تزال معلّقة، تنتظر أن ينظر فيها، هذه المصائر المعلّقة أعطت للفيلم دفعا تشويقيا أكثر، وزاد اتساع التأويل فيه، لأن الأفلام الوثائقية المهمة هي التي تطرح الأسئلة وتركز عليها كعهد هذا الفيلم، وتترك للمشاهدين وأصحاب الحل والربط فكرة الإجابة عنها وتفسيرها والبحث عن الحلول المطلوبة، لهذا خلق هذا الغموض جمالية في الموضوع، وقدّم للمشاهد شحنة عاطفية ستجعله يفكر ويطرح الأسئلة وفي الوقت نفسه يقف على المشكلات الكبيرة التي يتخبط فيها اللاجئون السوريون في البلدان المحيطة بسوريا وفي كل نقاط العالم، خاصة الوضع المزري للأطفال الذين وقعوا ضحايا لأحداث لم يكونوا طرفا فيها.
سكوت…أطفال سوريا
في المخيمات يتألون
ينتمي فيلم «أرواح صغيرة» إلى «سينما الحروب»، وان كانت كاميرا المخرجة دينا ناصر لم تلتقط ولم تصور مشهدا واحدا منها، لكنها تطرقت إلى إفرازاتها والويلات التي تصنعها وتأثيرها على المجتمع والأسرة والفرد، وهذا الجانب من المعالجة هو الذي يصنع الفارق، ويترك الأثر الكبير لدى المشاهد في أي نقطة من العالم، وهذا ما سعت له المخرجة عمليا، ومن المفروض أن يكون هذا الطرح هدفا لكل مخرج، لأن ما يتركه الفيلم في وجدان المتلقي هو ما يصنع تميزه ويحقق أهدافه، وينطلق عمل دينا من نقطة «الملازمة»، أو «المصاحبة» للعائلة السورية التي رافقتها أربع سنوات كاملة، حتى تستعير عيونها لكي ترى بهم الأشياء التي تحيط بهم، وتلج قلوب الأطفال كي تسمع بها نبضات الخير التي تدق داخلهم، وقد نجحت في هذا بعد أن نقلت ما أحست به وعايشته إلى الجمهور الذي توحد هو الآخر مع هذه التفاصيل الإنسانية وأحس بها، كما يظهر الوقت الذي استغرقته المخرجة لتصوير هذا العمل مدى نضجها ورزانتها برغم أن الفيلم هو باكورتها في الفيلم الطويل،
لكن علينا أن نشير بأن المخرجة سبق لها وان أخرجت نسخة أولية من الفيلم مكونة من 9 دقائق، وقد حصلت من خلاله على جوائز عدة من المهرجانات التي تهتم بالأفلام الوثائقية القصيرة.
يروي فيلم «أرواح صغيرة» إنتاج الأردن/فرنسا/ لبنان/ وقطر، الذي عُرض في الدورة الثالثة لمهرجان الجونة السينمائي (19-27 سبتمبر/ أيلول 2019)، قصة عائلة سورية تركت سوريا بسبب الحرب، وقد سلطت المخرجة دينا ناصر الضوء بشكل خاص على الطفلة مروة التي تبلغ من العمر تسع سنوات، مع تفكيك العلاقة التي تجمعها بأمها وإخوتها ومحيطها، وهي عائلة عالقة في مخيم الزعتري للاجئين في الأردن، الذين وصلوه مع الآلاف من العائلات السورية الأخرى سنة 2012 بعد فرارهم من نير الحرب، وقد استطاعت المخرجة أن تلامس عمق الشخصيات، خاصة شخصية مروى، من خلال إبراز التأثير العاطفي الذي يمكن أن تحدثه الحرب على الأطفال، وحسب ملخص الفيلم وما جاء فيه فإن «الطفلة مروة كانت تتوقع أن تبقى في المخيم لبضعة أسابيع على أفضل تقدير، ولكن على مدار السنوات الأربع التالية، نراها تكبر من طفلة إلى امرأة شابة، تبدأ مروة في الاعتياد على الحياة في المخيم، وفي الوقت نفسه تنضج وتتغير نظرتها للحياة، بحكم أنها خرجت من مرحلة الطفولة ودخلت إلى مرحلة المراهقة وحتى أنها أصبحت شابة، بحكم المواضيع التي باتت تناقشها في الفيلم والأسئلة العميقة التي تطرحها، وأكثر من هذا الأفكار التي تقدمها بجرأة، نظرتها للحياة كيف كانت وكيف ستكون، أحلامها المؤجلة، علاقاتها الغرامية وحبها للحياة، نظرتها البريئة إلى الحرب وما تفعله، كل هذه المعطيات والرؤى نقلتها المخرجة في فيلمها، وأظهرت من خلالها مدى معاناة الأطفال والعائلات في المخيمات التي تقام هنا وهناك.
الوجع السوري من خلف الحدود
نجحت المخرجة دينا ناصر بمقاربتها السينمائية في أن تلامس وجع اللاجئ السوري، وتظهر العديد من الحقائق التي كانت مختبئة خلف الشعارات الرنانة التي تطلق هنا وهناك من قبل الحكومات ومؤسسات الإغاثة، حيث نقلت الصورة الحقيقية من دون تزييف، تعكسها المعانات التي يعيشها الأطفال السوريون في مخيم الزعتري المقام في الأردن وهو الفضاء الذي تتحرك فيه أحداث الفيلم، وهو بالمناسبة ثاني أكبر مخيم للاجئين في العالم والأكبر عربيا، إذ يحرمون من أبسط الحقوق الطبيعية، بسبب العدد الهائل لهم، وهذا ما أُثر على الخدمات الصحية والتعليمية والأمنية، خاصة وانه يعيشون في فضاء محاصر بالأسلاك الشائكة والحراس، ويمنع خروجهم إلا بتصريح، وقد حاولت عائلة مروى أن تخرج من المخيم خلسة وتقيم في احد المدن القريبة، لكن ارتفاع الإيجار وغلاء المعيشة وبقاؤهم من دون عمل أفشل الخطة، ما جعلهم يعودون، وقد وفّقت المخرجة في أن تكون شاهدة بكاميراتها على المنعرجات الكبيرة التي مر بها المخيم، مثل الفيضانات التي اجتاحتهم، والسيول التي أزاحت خيامهم، لكن هناك دائما ضحكة ما ترتسم برغم الوجع الكبير، من خلال الاحتفالات بالأعياد، أو الفرح الذي يعم العائلة من خلال زواج ابنهم الذى بقى في سوريا، كما استطاعت المخرجة أن تقبض على اللحظة التي جاءت فيها القوى الأمنية للقبض على أخيها الأكبر، من اجل التحقيق معه إن كان منخرطا مع الجماعات المتشددة، وقد كان صوت المخرجة السارد للأحداث بمنزلة الخيط الذي يجمع تلك المشاهد بحميمية ما، وأكثر من هذا كان البديل في حالة غياب الصورة المعبرة، من هنا جاء الفيلم ذاتي وموضوعي في نفس الوقت، يصنع لحظاته المشهدية بكل قوة.
فيلم «أرواح صغيرة» عمل توثيقي مهم، وقد نجحت المخرجة في أن تجعله يؤرخ للوجع السوري ويقف طويلا أمام إفرازات الحرب وويلاتها، وقد نوعت دينا في صورها ومصادرها وشهاداتها في العمل، حتى أنها لجأت إلى ما تخزّنه ذاكرة هواتف عائلة مروى، لتوظيفها بجمالية في الفيلم، لتقويه أكثر كي تقرب المشاهد وتجعله قريبا من أبطال العمل.
المخرجة دينا ناصر منتجة ومخرجة أردنيّة من جذور فلسطينيّة، حازت على درجة البكالوريوس في الفنون الإعلانيّة والتواصل البصري، وحصلت على منحة نوماد الدراسية ونالت درجة الماجستير في صناعة الأفلام الوثائقيّة في المدن الثلاث التالية: لشبونة وبودابست وبروكسل، شقّت دينا طريقها في العديد من الإنتاجات التلفازيّة والسينمائية، ليكون الفيلم الوثائقي «أرواح صغيرة» آخر أعمالها.