حارث حسن
العربات المزوّدة بمحركات في بغداد هي رمزٌ للأزمة الأوسع نطاقاً التي يواجهها العراق فيما يعجز عن تأمين مستقبل حيوي لشبابه.
قبل الاحتجاجات الأخيرة في العراق، كان استخدام العربات المزوّدة بمحركات المعروفة بالـ «توك توك» محصوراً فقط بالمناطق الواقعة عند الأطراف في شرق بغداد. وكان نشاط سائقيها جزءاً من الاقتصاد غير النظامي، وهو اقتصاد غير خاضع للتنظيمات و»غير مشروع». لكن هذا النشاط توغّل في نهاية المطاف في الحياة اليومية لسكّان المناطق حيث يُسمَح باستخدام عربات الـ «توك توك»، ما يُرجع صدى ما قاله عالم الاجتماع آصف بيات عن الممارسات المشتركة للأشخاص العاديين، معتبراً أنها موجَّهة لتعزيز مصالح المهمّشين.
ولكن عند اندلاع التظاهرات في ميدان التحرير في بغداد في تشرين الأول/أكتوبر 2019، برزت عربات الـ «توك توك» جزءاً أساسياً من المشهد، بحيث تمكّنت من التملص بمهارة من القيود التي فرضتها قوى الأمن، وأمّنت الدعم اللوجستي للمحتجّين. فقد تحوّلت إلى سيارة إسعاف منقذة للأرواح، تمرّ عبر الحشود لنقل المتظاهرين المصابين إلى المستشفيات. وسرعان ما أعلن عدد كبير من المحتجين أن هذه العربة هي رمزٌ لـ»الثورة»، وأُطلِق على الصحيفة الأولى التي أصدرتها مجموعة من المحتجين اسم «توك توك». ولكن اللافت أيضاً هو الاعتراف الذي ناله سائقو الـ»توك توك» في الأشهر الأربعة الماضية. فهم يمتلكون الآن حرية التنقّل في المناطق الواقعة وسط بغداد، ووفقاً لمصادر محلية، بدأت الحكومة تزويد عرباتهم بلوائح تسجيل. ومن الأسباب التي ساهمت في تنامي الدور الذي تؤدّيه الـ»توك توك» أن هذه العربة هي من نتاج الصراع الذي تخوضه فئة مهمّشة في المجتمع العراقي من خلال تحدّي الحدود والقيود التي يفرضها الوضع القائم السياسي والاجتماعي. وبهذا المعنى، إنها بمثابة صورة مستعارة عن الحركة الاحتجاجية التي أشعل الشباب شرارتها وأبقوها متّقدة، ومعظمهم من العاطلين عن العمل أو ممن يعانون من البطالة المقنّعة، أو من الطلاب الذين هم مشاريع عاطلين عن العمل. ولم يكن لدى سائقي عربات الـ»توك توك» ما يخسرونه عندما قرروا الانضمام إلى المتظاهرين، وقد ساهم قرارهم هذا في توسيع مجال نشاطهم وتحسين مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية. وتمثّل الحركة الاحتجاجية أيضاً النضال الذي يخوضه تحالفٌ من الأفراد والمجموعات الذين يريدون الحصول على الاعتراف وعلى حصة أكبر من الموارد المادّية والرمزية في العراق، ومن المساحات التي تسيطر عليها الفصائل الحاكمة والمجموعات الإسلامية. للحركة الاحتجاجية طبقات وأصوات متعددة تعكس أولويات مختلفة. فهي تتعلق، في نظر البعض، بالإصلاح الجوهري للمنظومة السياسية؛ ويرى فيها آخرون تحركاً داعِماً للعدالة الاجتماعية والاقتصادية أو رافِضاً للتشدد الإسلامي والقيم المحافظة المرتبطة به. حتى إن بعض الأشخاص يرون في الاحتجاجات فرصةً للتخلص من روتينهم اليومي والتسكّع مع الأصدقاء. ويعكس النزول إلى الشوارع وتنظيم التظاهرات التسييس المتزايد للشباب بقدر مايعكس فشل قنوات السلطة القائمة في تمثيلهم أو استيعابهم.
وتقع في صلب هذا التحرك الاحتجاجي المطالبة الضمنية بتوزيع أفضل للسلطات والثروات. يمكن تحقيق ذلك من خلال تشكيل حكومة أفضل تمثيلاً ووضع حد لمنظومة المحاصصة حيث أصبحت الدولة بمثابة قالب جبنة تتقاسمه المجموعات السياسية وشبه العسكرية. ولذلك يطالب المحتجّون بانتخابات حرّة ونزيهة بموجب قانون يقطع الطريق أمام تجديد سيطرة الفصائل الحاكمة.
وفي هذا الصدد، من الضروري أن نفهم كيف يُدار الاقتصاد العراقي ولماذا تُعتبَر الاحتجاجات وليدة وهَن بنيوي في المنظومة. العراق دولة ريعية حيث تُشكّل العائدات النفطية نسبة 95 في المئة من الموازنة الحكومية. وقد فضح هبوط أسعار النفط في العام 2013 هشاشة البلاد على المستوى الاقتصادي، في حين تسبّبت كلفة الحرب على الدولة الإسلامية إلى جانب النمو الديمغرافي بزيادة الضغوط على قاعدة الموارد الآخذة في التقلّص. وتفاقمت هذه المشكلات بفعل إدارة الفصائل الحاكمة للإيرادات الوطنية بطريقة تطفّلية وغير منصفة، فضلاً عن إخفاقها في استنباط مصادر بديلة لتوليد الرساميل.
يحصل نحو 6 ملايين عراقي، أي أكثر من 15 في المئة من السكان، على رواتب ومعاشات تقاعدية وتعويضات مالية من الدولة. وفي العام 2019، وصل مجموع هذه المستحقات إلى حوالى 52 مليار دولار من الموازنة البالغة قيمتها 111 مليار دولار، والتي سجّلت عجزاً مرتفعاً يفوق 23 مليار دولار، وانتُقِدت بأنها تتسبب بالهدر وتفتقر إلى رؤية طويلة الأمد. وعنى ذلك إنفاق نحو 60 في المئة من الإيرادات الفعلية على الرواتب والمعاشات التقاعدية. إذا أُضيف هذا المبلغ إلى نفقات «تشغيلية» أخرى، يبقى جزءٌ يسير فقط للإنفاق على الاستثمار والبنى التحتية، وقد خُصِّص قسمٌ كبير منه لتمويل المصالح التجارية المشبوهة للفصائل السياسية أو امتصّته أجهزة الدولة التي تعاني من فساد شديد.
يُشير خبراء اقتصاديون، وفقاً لتقديراتهم، إلى أن نحو نصف العراقيين يحصلون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على رواتب ومعاشات تقاعدية. ولكن مع زيادة أعداد السكان بواقع مليون نسمة تقريباً في السنة وتوافُد أكثر من نصف مليون طالب وظيفة جديد إلى سوق العمل سنوياً، فإن الآلية المشوبة بالخلل المعتمدة في توزيع الثروات من خلال الرواتب والمعاشات التقاعدية والمحسوبيات والفساد تعجز عن الحفاظ على درجة معقولة من التوازن الاجتماعي والسياسي. وقد كشف تقرير صدر مؤخراً عن وزارة التخطيط أن نسبة الفقر مرتفعة جداً في المدن الجنوبية حيث تكررت الاحتجاجات – وتصل هذه النسبة إلى 44 في المئة في ذي قار، و52 في المئة في المثنى.
تزداد أعداد العراقيين الذين تخلّت عنهم المنظومة الحالية؛ وعددٌ كبير من الخرّيجين الشباب الذين كانوا يتوقعون الحصول على وظيفة آمنة في القطاع العام وجدوا أنفسهم عاطلين عن العمل أو مرغمين على العمل في القطاع غير النظامي حيث الأمان معدوم والرواتب متدنّية، وربما يعملون سائقي «توك توك». وقد أخبرني صيدليٌّ في الناصرية أصبح ناشطاً ملتزماً في الحركة الاحتجاجية أن بعض أقرانه لم يفلحوا في العثور على وظيفة في القطاع العام، واضطروا إلى البحث عن وظائف هشّة خارج مجال اختصاصهم. أما «المسؤولون المحليون وكبار القياديين في الميليشيات فقد جمعوا ثروات طائلة، وشيّدوا منازل أو احتلوا مكاتب في الأحياء الأكثر فخامة في المدينة»، بحسب قوله.
وقد تعاملت الحكومة مع هذه المشكلة من خلال إطلاق وعود بتعيين مزيد من طالبي الوظائف في القطاع العام، إلى جانب القمع الأمني للمحتجين. ولم تشرح ما الآلية التي تتيح تسديد رواتبهم من دون زيادة العجز واستنزاف موارد الدولة الآخذة أصلاً في التناقص. ولم تحدد ماذا يمكن أن يحدث عند انضمام مزيد من الشباب إلى سوق العمل في السنوات القليلة المقبلة.
تنشأ حدود جديدة في العراق بين مَن يفيدون من توزيع الثروة النفطية على نحوٍ مسيَّس وغير متكافئ، ومَن لايفيدون منها. وغالب الظن أن هذا الشرخ سوف يتعمق فيما تستمر الفصائل الحاكمة وبيروقراطية الدولة، التي وصفها خبير اقتصادي عراقي بأنها «اللوبي الأكبر في البلاد»، في مقاومة أي إصلاح جوهري من شأنه إلحاق الضرر بمصالحها. لذلك يمكن النظر إلى الحركة الاحتجاجية بأنها شكل من أشكال المساومة بين تحالف المحتجين والقوى التي تفيد من بقاء المنظومة على حالها. ومن غير المرجّح أن ينتهي ذلك بإلحاق أحد الفريقَين هزيمة كاملة بالفريق الآخر. بل أغلب الظن أنه سيؤدّي إلى فترة طويلة من غياب الاستقرار الاجتماعي والسياسي، فالوضع الراهن غير مستدام ولم يتبلور أي بديل واضح.
- مركز كارنيغي للشرق الاوسط