ما الذي يمكن ان نطلق على مثل هذه المشاهد التي لم تعرفها آخر القبائل التي تركت حياة الادغال؛ أي مشاهد قطع طريق محمد القاسم على سبيل المثال لا الحصر، وفي المنطقة التي تقع فيها مقرات وزارة الداخلية، من قبل مجموعة ملثمة ومسلحة بالهروات والقامات والعصي، من دون ان تكلف قوى الامن المنتشرة هناك نفسها في الرد على مثل تلك الانتهاكات السافرة؛ غير انه طيحان حظ..! وما العبارة اللائقة بمشاهد اقتحام عصابات مكافحة الدوام لحرم الجامعات والمدارس والمؤسسات الحيوية من دون ادنى مبادرة للرد من قبل أجهزة الامن التي يتجاوز عدد منتسبيها المليون عنصر، غير انه طيحان حظ ومن العيار الثقيل. هذه وغيرها من مشاهد حالتنا الغرائبية، تؤكد وبما لا يقبل الشك على ما انحدرنا اليه جميعاً من فشل وتشرذم وذل وهوان، ذلك الحضيض الذي تختزله بدقة عبارتنا الشعبية التي اخترناها عنواناً لعمودنا هذا. ان تختطف النشاطات الحضارية والاحتجاجات المجربة لاسترداد الحقوق العادلة والمشروعة، من قبل المجاميع والعصابات الملثمة والمدمنة على ممارسة اقبح انواع السلوك والاساليب العدوانية ضد الآخرين، ومقابل ذلك تقف الاجهزة التي تشفط القسم الاكبر من موازنات البلد، مكتوفة الايدي تحت ذريعة احترامها لشرعة حقوق الملثم في الاعتداء على حرية وحقوق الآخر “غير الملثم”، وغير ذلك من الذرائع والتبريرات؛ ما الذي يمثل غير انهما “وجهان لطيحان حظ واحد”.
في التعاطي مع ما يجري، نجد هناك العديد من التصورات والآراء، وأكثرها شيوعاً يعد موقف الاجهزة الامنية المتخاذل بوصفه جزء من مخطط لتشويه سمعة الاحتجاجات ووسائلها في الوصول الى غاياتها، وبالتالي عزلها تدريجياً وتقليص حجم التعاطف الشعبي معها، ومع تلك الانعطافة في المزاج العام، يتم التمهيد لعودة معادلة دمارنا الشامل أي “لو طخه لو طلع مخه” لتعود الاجهزة الامنية الى ثوابتها وتقاليدها، في استعمال القوة لفك كل انواع الاشتباكات التي انتجتها شبكات تشرذمنا الوطني. كما ان الموقف المتهاون والملتبس لقوى الاحتجاج المختلفة من مجاميع أو ما يسمى بـ “أفواج مكافحة الدوام” الحق أبلغ الضرر بسمعة وقدرة تلك الاحتجاجات في الوصول الى اهدافها العادلة والمشروعة، وكنت قد أشرت مبكراً الى مخاطر ذلك المنحى في مقالي “اعتصام اجباري” وعواقبه على مستقبل هذه الاحتجاجات، لكن عدم وجود قيادة لها سمح بمرور وتسلل مثل تلك الممارسات والاساليب المتنافرة وروح المطالب والتطلعات المشروعة للعراقيين، وما يفترض ان تحمله من منظومة قيم تمثل الضد النوعي لما خرجوا من اجل تقويمه.
وجهان يفترض نظرياً تمثيلهما لخصمين لدودين (السلطة والمحتجين) لكنهما على أرض الواقع، يلتقيان عند مستنقع “طيحان الحظ الوطني”، وهما بوعي او من دونه يعيدان انتاج دورات العجز والفشل في التأسيس لاصلاحات جذرية وواقعية تنتشل مشحوفنا المشترك من محنته المتجددة. لقد تطرقنا في الكثير من الاعمدة والمقالات والمناسبات لملف اعادة بناء الجيش واجهزة الامن، وما رافق ذلك العمل من فوضى وعشوائية وترهل وغياب تام للمعايير المهنية والوطنية، كما حذرنا من مغبة انحراف الاحتجاجات الى مثل هذه المسارب الخطرة، التي تنزع عنها سلاحها الاساس ومصدر قوتها وحيوتها “سلميتها” ووضوح أهدافها ورقي اساليبها وسلوك ممثليها والمنخرطين في صفوفها. انها ثغرات وعيوب لن تنفع محاولات التستر عليها أو تبريرها، ومن دون التعاطي معها بوعي ومسؤولية من جميع الاطراف المعنية، يعني ان لعنة “طيحان الحظ” باقية وتتمدد..
جمال جصاني