عماد الدين بادي*
الدعم الروسي للهجوم الفاشل الذي شنّه حفتر على طرابلس قد يستثمر من جديد، وبنجاح، في تخلّي القوتَين الأميركية والأوروبية عن الدبلوماسية الموثوقة. وفي حين أن الولايات المتحدة قلقة جداً من التدخل العسكري الروسي في ليبيا، قد ينعكس أثر هذا التدخل في المسار الدبلوماسي. فعدم اكتراث أوروبا للأمر والتباعد بين دولها – فضلاً عن فشل إدارة ترامب في وضع استراتيجية متماسكة – أتاحت لأفرقاء أقل تأثيراً إلى حد كبير بفرض نفوذهم في ليبيا. وفي هذا الصدد، أثبتت الإمارات العربية المتحدة وتركيا، مثلاً، أنهما لاعبان أساسيان على الأرض. وفي حين أن روسيا فد تفتقر إلى الرأسمال السياسي لإطلاق عملية شبيهة بعملية أستانة في ليبيا، فإن رهانها على تقاعس نظرائها عن التحرك قد يتيح لها بأن تؤدّي دور سمسار النفوذ.
لقد نشرت روسيا أعداداً كبيرة من المرتزقة من مجموعة واغنر والجنود النظاميين دعماً لهجوم حفتر. وتزامنَ هذا التدخل مع قيام ألمانيا ومبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى ليبيا، غسان سلامة، بإطلاق عملية برلين في أيلول/سبتمبر 2019. وقد وضعت وزارة الخارجية الألمانية التصوّر الأولي لهذه المبادرة التي أرادتها بمثابة قمة للدول التي تتدخل في ليبيا لدفعها نحو وقف دعمها للأفرقاء المتناحرين هناك من دون قيد أو شرط. من شأن التزام الأفرقاء الخارجيين بسحب الدعم أن يمهّد الطريق أمام إعادة إطلاق العملية السياسية التي تقودها الولايات المتحدة. لكن، بعد اجتماعات تحضيرية عدة، تحوّلت عملية برلين على ما يبدو إلى منبر حاول بعض داعمي حفتر – خصوصاً فرنسا ومصر – من خلاله تكوين مشهد سياسي واقتصادي وأمني مؤاتٍ لحفتر وقواته المسلحة العربية الليبية.
ولم يتزامن نشر مرتزقة واغنر مع إطاق عملية برلين فحسب، بل جاء أيضاً في توقيت دقيق لحفتر الذي تكبّد انتكاسات عسكرية في هجومه بعد خسارته قاعدته الأمامية الأساسية. وعبر القيام بذلك، حافظت روسيا في البداية على شكل من أشكال الإنكار المعقول لدرجة تدخلها في ليبيا. وأصبحت أيضاً من اللاعبين الأساسيين الذين يؤثّرون في المشهد العسكري لهجوم حفتر، ويُحدّدون بالتالي المكانة العسكرية والسياسية للواء السبعيني. ومن نتائج ذلك أيضاً أن الدعم الروسي أصبح الركيزة الحيوية لنجاح عملية برلين. فعلى النقيض من الأفرقاء الآخرين في ليبيا، روسيا هي الدولة الوحيدة التي تملك عدداً كافياً من القوات البرية يُتيح لها قلب المعادلات على نحوٍ حاسم في ما يتعلق بالنتائج المترتبة عن هجوم حفتر.
على الرغم من التدخل الروسي المقلق، أبدى المشاركون في عملية برلين رضاهم عن هذا التطور الجديد. وقد جاءت مساهمات الجنود الروس في القتال لتستكمل الهجمات الجوية المتواصلة التي شنتها طائرات مسيّرة صينية الصنع يقودها طيارون إماراتيون، وفي بعض الأحيان مقاتلات إماراتية. أما رد فعل الجنرال تاونسند، المسؤول عن القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (أفريكوم)، على قيام روسيا بإسقاط طائرة مسيرّة تابعة لسلاح الجو الإيطالي من طراز «ريبر» وطائرة مسيرة تابعة للقيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا كانت تُحلّق على علو مرتفع، فاقتصر على التأنيب. على الرغم من تفوق القّوات المسلحة العربية الليبية في إمكاناتها الجوية – وذلك نتيجة قيام طائرات أجنبية بالتحليق دعماً لها – لم تتمكن حتى الآن من تحقيق خرق عسكري على الأرض، لا سيما في المناطق المدينية ذات الكثافة السكّانية العالية. ومع ذلك، ربما يتبدّل الوضع شيئاً فشيئاً بفضل الدعم الروسي، فالهجمات المضادة التي تشنّها حكومة الوفاق الوطني لم تعد تتمتع بالفاعلية كما في السابق. فقد تلقّت المعنويات ضربة. ولعل الأهم هو أن نشر قوات المرتزقة الروسية تزامنَ مع تراجع الدعم العسكري التركي للقوات المنضوية في ظل حكومة الوفاق الوطني. وقد أصبحت هذه القوات الآن أكثر هشاشة من أي وقت مضى.
عمدت تركيا، منذ مطلع أيلول/سبتمبر الماضي، إلى خفض عدد الهجمات التي تشنّها بواسطة الطائرات المسيّرة من طراز «بايراكتار»، لجملة أسباب منها الرغبة التي أظهرتها أنقرة بدايةً في ترقُّب نتائج عملية برلين. ومن العوامل الأخرى التي تقف خلف القرار الذي اتخذته تركيا بخفض الدعم الأثر الذي يمكن أن يمارسه دورها في ليبيا على علاقاتها مع الروس في سورية. فضلاً عن ذلك، قررت تركيا الاستثمار في العزلة الدولية لحكومة الوفاق الوطني التي لم يتبقَّ لها، بعد نيسان/أبريل، أي دعم دولي فيما خلا الدعم التركي من أجل التصدّي لمحاولة حفتر الاستيلاء على السلطة. وقد استغلت تركيا التباين المتزايد في العلاقات بينها وبين السلطات في طرابلس. وعمدت حكومة الوفاق الوطني التي شعرت بأنها محاصَرة، إلى توقيع مذكرتَي تفاهم مع تركيا بشأن الحدود البحرية والتعاون الأمني في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر، ما أسفر عن ترسيم حدود منطقة اقتصادية خالصة بين تركيا وليبيا. وابتلعت تركيا، من خلال هذه الخطوة، جزءاً من المياه الإقليمية التي تُعتبَر أنها تابعة لليونان، فكان لهذا الأمر أثرٌ على الاصطفافات الليبية في هذا السياق.
تُظهر ردود فعل الدول المتوسطية الأخرى على توقيع مذكرتَي التفاهم الانفصال بين عملية برلين والأوضاع العسكرية والسياسية التي تتغير سريعاً في ليبيا. لقد أثارت التصرفات التي أقدمت عليها تركيا وحكومة الوفاق الوطني نفور بعض الكتل. تتألف الكتلة الأولى من فرنسا واليونان اللتين تسعيان إلى تحويل هذا الامتعاض إلى مزيد من المعارضة لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. وقد يعني ذلك إقدام الاتحاد الأوروبي أحادياً على إدانة الدور التركي في ليبيا. وفي موازاة ذلك، دفع الصراع القائم بين الأتراك والقبارصة في شرق المتوسط بالكتلة الأوسع المؤلفة من قبرص ومصر وإسرائيل إلى التعبير عن استهجانها لتوقيع مذكرتَي التفاهم. وتكتسب هذه الديناميكية الجيوسياسية بعداً إضافياً على ضوء قيام شركتَي النفط الفرنسيتين «إني» و»توتال» بالتنقيب عن النفط قبالة الساحل القبرصي الجنوبي الغربي. وفي حين أبدت فرنسا على الدوام دعماً قوياً لحفتر، طوّرت إيطاليا تدريجاً سياسة قائمة على التناقض في موقفها منه في ليبيا.
في المجمل، يريد حفتر وأنصاره أن يتراجع المجتمع الدولي عن اعترافه بحكومة الوفاق الوطني. ويُعوّلون في هذا الإطار على مشاعر العداء لتركيا، كما يتطلعون إلى محافل جديدة، مثل جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي، من أجل مساعدتهم على تحقيق هذه الرؤية. ويُشار في هذا السياق إلى أن معظم الدول التي تندّد الآن بمذكرتَي التفاهم، كانت قد رفضت في السابق ممارسة أي ضغوط على حفتر بغض النظر عن الأعمال الحربية التي يلجأ إليها هو وأنصاره. واستخدمت بدلاً من ذلك عملية برلين إما وسيلةً للتوصل إلى تسوية بين الأفرقاء الليبيين وإما منصّة لتصفية الحسابات الجيوسياسية.
لكن ما تتغاضى عنه فرنسا ومصر هو ضآلة قدرتهما على التأثير في المشهد العسكري لهجوم حفتر. والجهود التي تبذلانها لسحب الاعتراف الدولي من حكومة الوفاق الوطني يمكن أن تسدّد، في حال جاءت في التوقيت المناسب، ضربة قاضية تكون بمثابة عقوبة الإعدام لحكومة الوفاق الوطني على المستوى السياسي. ولكن من شأن القوات المناهضة لحفتر أن تملأ على الأرجح الفراغ الذي سيحدث في السلطة بواسطة عناصر متشددين، الأمر الذي قد تترتب عنه نتائج كارثية. والنزعة المقلقة الأخرى هي الدعم الذي تقدّمه فرنسا والإمارات ومصر لحفتر. فالغطاء الدبلوماسي الذي تؤمّنه هذه الدول يُكمّل بحكم الأمر الواقع المساهمة العسكرية المتواضعة التي تقدّمها روسيا على الأرض . وهكذا تتحقق مصالح الكرملين مقابل كلفة ضئيلة. وهذا الالتقاء بين الجهود العسكرية والدبلوماسية يصب حالياً في مصلحة بوتين ويمنح روسيا نفوذاً غير متكافئ. باستطاعة روسيا الآن أن ترسم معالم المشهد العسكري الراهن في محيط طرابلس، وتُعطّل عملية برلين، وتُحدّد مصير حفتر.
انطلاقاً مما تقدّم، ليست تصريحات أردوغان الاستفزازية الأخيرة و حديثه اللاحق مع بوتين حول الملف الليبي بالأمر المفاجئ. فالرئيس التركي يرى، وفقاً لحساباته التي قد تعود بثمارها، أن مواصلة مفاوضاته الحالية والمباشرة مع بوتين سوف تفضي في نهاية المطاف إلى تقويض الجهود السياسية لجميع الأفرقاء الآخرين الداعمين لحفتر. وقد أكّد وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو ذلك مؤخراً في منتدى الدوحة معلناً أن «أردوغان وبوتين اتفقا على العمل ثنائياً لوقف حمام الدماء في ليبيا». ثمة مجالات تعاون قائمة أصلاً بين بوتين وأردوغان، على المستويَين الأيديولوجي والعملاني، ويمكن استخدامها في ليبيا، ما يزيد إلى حد كبير من احتمالات التقارب بينهما. فمثلما أن روسيا تتحكّم بشرعية حفتر السياسية، مصير حكومة الوفاق الوطني هو في أيدي تركيا، فيما يفقد جميع الأفرقاء الآخرين موقعهم تدريجاً.
في نهاية المطاف، يفتح التقاعس الأميركي والأوروبي الباب أمام تعدّد الأقطاب في ليبيا، مع قيام تركيا وروسيا معاً بملء الفراغ الذي خلّفته الولايات المتحدة وأوروبا. ثمة حاجة بلا شك إلى التقاء حقيقي لمصالح الأفرقاء الخارجيين في ليبيا من أجل إرساء السلام. وقد يؤدّي تقاربٌ مؤقت بين أنقرة وموسكو في ليبيا إلى انحسار النزاع لفترة مؤقتة أو حتى إلى تأمين الاستقرار في المدى القصير. ولكن الحركة الدبلوماسية التي تدور خلف الكواليس بين تركيا وروسيا لن تكون كافية في مواجهة التدخل من الأفرقاء الآخرين، ولن تدفع بالليبيين إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات. باختصار، غياب التماسك بين الموقفَين الأميركي والأوروبي والتباعد بين الطرفَين يجعل التوصل إلى تسوية للمأزق الليبي في المدى البعيد أمراً صعب المنال.
عماد الدين بادي باحث غير مقيم في معهد الشرق الأوسط وزميل في برنامج قادة السياسات في معهد الجامعة الأوروبية يُركّز في بحوثه على الشؤون الليبية. لمتابعته عبر تويتر.
- عن موقع صدى