فيما العملية السياسية التي انطلقت بعد زوال النظام المباد تصل الى طريق مسدود، حيث يقف العراق اليوم أمام تحديات مصيرية تهدد وجوده وما تبقى له من امن واستقرار، وفي ظل حكومة تصريف اعمال؛ يأتي العمل الاميركي الاهوج عبر استهداف قافلة نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي ابو مهدي المهندس وقائد فيلق القدس الايراني الجنرال قاسم سليماني وعدد من مرافقيهم، على طريق مطار بغداد الدولي، لتشرع الابواب أمام بدء العد التنازلي لانطلاق الاعمال المتهورة والهوجاء، في بلد ومنطقة آخر ما تحتاجه مثل هذه الاعمال والقرارات البعيدة عن الحكمة والمسؤولية. مع هذا الحدث الخطير نكون قد سارعنا الخطى في الانحدار الى ما حذرنا منه مراراً وتكراراً؛ أي التصرفات والقرارات الحمقاء، والتي قال عنها جو بايدن نائب الرئيس الاميركي السابق؛ انها بمثابة “القاء اصبع من الديناميت في برميل من البارود”. لقد اشرنا في مقال (ما بعد آرامكو) الى خطورة مثل هذه السياسات الخرقاء، وتداعياتها على وضع المنطقة والعراق بنحو خاص، لكن الاصرار على منهج التصعيد، وتفرد صقور الطرفين بمقاليد امور القرار في واشنطن وطهران، دفع الامور الى المسارب التي لا تحمد عقباها.
بسبب ما انحدر اليه المجتمع العراقي (افرادا وجماعات) من تشرذم وتمترس، وما رافق ذلك من هزائم على شتى الاصعدة المادية والقيمية، نجده اليوم اعجز ما يكون على مواجهة كل هذه المخاطر والتحديات الجسام التي تواجهه، وكل من يتصفح شيئاً من هذياناتهم وهلوساتهم (افرادا وكيانات واخوانيات وشلل) تجاه جميع الاحداث التي تعصف بهم، يتعرف على ذلك البؤس الذي نخرهم وجعلهم وفقا لمفردة دستورهم “مكونات” لا حول لها ولا قوة، وهذا ما نضح عمن تنطع لمهمة تمثيلهم على الجبهتين الرسمية والشعبية. لذلك كله يصبح امر التعويل على موقف حكومي حازم، أو موقف شعبي موحد تجاه هذا العمل الاهوج، أمراً بعيد المنال. ان هذا الاستغلال البشع لما يمر به العراق من وضع حرج ومعقد، من قبل سادة البيت الابيض الحاليين في تصفية حساباتهم مع حكام طهران، يطيح بقائمة الادعاءات الزائفة عن اولوياتهم تجاه هذا الوطن المنكوب، بحذلقاتهم ودقلاتهم المترنحة على ايقاع ماراثونات الوصول للبيت الأبيض.
اما في الضفة الاخرى والتي خسرت عند بوابة مطار بغداد الدولي، أحد أبرز وأشهر شخصياتها الجنرال سليماني، فرغم الخسارة الفادحة التي شكلها ذلك الحدث لها، الا انه سيعزز من سطوة ونفوذ القوى المتشددة في الادارة الايرانية. ومن الاهمية بمكان الاشارة الى ان نفوذها، أي القوى (المتشددة) قد تقلص كثيرا في الآونة الاخيرة، وهذا ما تعرفنا عليه في الاحتجاجات الأخيرة التي شهدتها العاصمة طهران والعشرات من المدن الايرانية، وما شهدته من قمع غير مسبوق من قبل اجهزة الامن الايرانية، مما دفع بحالات الاستياء والتذمر الى أن تصل لصفوف حلفاء النظام من كوادر وملاكات علمية وادارية، عندما بعث (50) شخصية مرموقة منهم قبل أيام؛ رسالة مفتوحة لقائد الجمهورية الاسلامية السيد علي الخامنئي، عبروا فيها عن قلقهم وخشيتهم من زوال النظام، كما حذروا من القطيعة الواسعة والسريعة للشعوب الايرانية مع النظام الحالي، ومن حتمية اضمحلاله ان لم يسارع بتنفيذ اصلاحات جذرية وواسعة، وان لم يقم باعادة النظر بسياساته الحالية. رسالة عكست المزاج العام للمشهد الايراني قبل ظهور الكاوبوي الاميركي على طريق المطار، أما بعد ذلك فالامر متروك لمن يعرف شيئا عن مزاج الايرانيين القومي..!
جمال جصاني