غرائبية المشهد العراقي شرعت الأبواب امام كل الشعارات والخطابات كي تجد لها موقعا ومساحة تأثير على تضاريس هذا الوطن المستباح، ومنها الشعار المركزي لما يعرف بـ “ربيع العرب” أي (الشعب يريد اسقاط النظام) والذي جاء في مواجهة أنظمة استبدادية بسطت هيمنتها المطلقة لعدة عقود على تلك البلدان ( مصر وسوريا وليبيا واليمن…) وبغض النظر عما تمخضت عنه تلك التجارب في نهاية المطاف؛ فان استنساخ ذلك الشعار ونقله الى عراق ما بعد زوال النظام المباد، يعكس حجم المتاهة التي نتخبط وسطها (افراداً وجماعات). كل من يتابع بدقة وحرص ما جرى بعد استئصال المشرط الخارجي للنظام المباد، لن يحتاج الى ذكاء خاص كي يتعرف الى حجم الفشل والعجز الذي رافقنا في مهمة بناء نظام سياسي جديد. ما نضح عما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية، لا تتحمله الطبقة السياسية الفاشلة والفاسدة وحدها، بل هو يستند الى احتياطات هائلة من الخراب المادي والبشري والقيمي، والى قيم وتقاليد واسلوب لانتاج الخيرات المادية وتراكمها وتوزيعها، وغير ذلك الكثير من ثوابت الدمار الشامل، تقف خلف كل هذا الكم الهائل الهزائم والدقلات التي اصبحت جزء من فولكلورنا الوطني.
قبل ان تجتروا الشعار الذي اشرنا اليه، امتلكوا نظاماً ما، ثم مهدوا بعد ذلك لاسقاطه، فالموجود حالياً لا شبيه له في قاموس الانظمة السياسية، فسدنته أنفسهم من ممثلي “الهويات القاتلة” وما يعرف دستورياً بـ (المكونات) والحريصون على تلقف حصصهم الحكومية، لا يخفون انشطتهم العلنية والسرية في العداء لهذا “النظام” الذي أوجدوه تحت المظلة الفضفاضة للمحاصصة و “الشراكة الوطنية”. كيان تلفيقي لكنه لم يوجد عن عبث، فهو يعكس في بنيته ووظائفه ما ورثناه من حطام أبشع تجربة توتاليتارية عرفها تاريخ المنطقة الحديث. لقد كشفت الاحتجاجات الاخيرة عما تضمره غالبية الكتل التي نهشت واعادت نهش “الغنيمة الازلية” طوال أربع دورات انتخابية تم فيها اعادة تدوير غنائمهم من ماراثونات ذلك “النظام” المأكول والمذموم. الصيغة السياسية الموجودة حالياً هي في حقيقة الامر، تمثل بفجاجتها وهشاشتها واقع حال هذا المجتمع وامكاناته الفعلية لا المنتفخة في هلوسات الافندية، وقد وجدت اساسا كنوع من البديل عن سيناريوهات الحرب الاهلية والتي شهدنا آخر تجسيد لها بظهور داعش واحتلالها لأكثر من ثلث الاراضي العراقية.
مشكلتنا مع “النظام السياسي” ليست جديدة، فهي تمتد بجذورها الى لحظة ولادة العراق الحديث (في العام 1921)، حيث فشلنا في الوصول الى عقد اجتماعي وسياسي يؤسس لنظام يضع حد لصولات العراقيين ضد بعضهم البعض الآخر. هذا الخلل البنيوي الذي أكدته الاحتجاجات الاخيرة، ونوع الخيارات المقدمة من جميع الاطراف (الحكومية والشعبية) والتي لا تخرج عن كونها نوعا من الهروب في مواجهة عللها الفعلية (الاقتصادية والقيمية)، الممتدة الى تفاصيل حياتنا (افرادا وجماعات) تشير الى حجم اغترابنا عن مواجهة تحدي بناء الدولة الوطنية بتشريعاتها ومدوناتها ومؤسساتها الحديثة. ان عقلية “حرق المراحل” والقفز على ما ينتظرنا من مشوار مرير على هذا الطريق، لن تلحق بهذا الملف الاشد أهمية في حياة البلدان والامم سوى المزيد من المتاهة والضياع. ومن سوء حظنا اننا ابتلينا بطفح من وسائل الاعلام وحطام من العاملين في مجال السياسة والثقافة والفكر، بعيدون كل البعد عن الوظائف التي وجدت من اجلها مهنهم الحيوية، مما ضاعف من عتمة وغرائبية المشهد الملتبس اصلاً…
جمال جصاني